الفَلْسَفَةُ في الوطن العربيّ وتحريرُ الأفق
(بقلم: د. زكّاري محمّد)
هلْ يَنْبغي لنا أنْ نتفَلسفَ تبعاً لمنظور معيّن؟
لنا الحقُّ، كما لغيرنا، في الاختلاف الفلسفيّ، هذا الاختلافُ الذي لا يمكنُ أن يتحَقَّق إلّا من خلال تملُّك أدواتِ التحديد النظريَّة، والتي تسمحُ لنا بأن نشقّ لأنفسنا تعريفاً للفلسفة يساوقُ نظرتنا إلى الوجود. يقتضي فعلُ التَّفلسُف، إذن، تحقيقَ ردّةٍ فوريّة واضطرارية على نظام التَّبعيّة الذي قيّد الوعي العربيّ وجعلهُ أسيراً في دواليب التّاريخ. حينَ نتأمَّلُ واقعنا فإنّنا ننصاعُ بذلك إلى عدّة مفاهيميّة يفرضُها علينا ذلك الحقل الذي منه ننطلق، والحال أنّ الفلسفةَ ليست كغيرها من التَّخصُّصات، فهي أسيرةٌ لما يفرضهُ عليها واقعها، ومن أجل ذلك فقد استحال عليها بناءُ نموذج كونيّ يوحّدُ الإنسانية جمعاء.
ليس الحقّ في الاختلاف شيئاً أكثر من كونه أداة لخروج الفلسفة من سياق النمذجة الكونية، والتي أفرزت عقلاً متعالياً وعنصرياً، يؤمن أنّ القيم الغربية هي المعيار المحدّد لما ينبغي أن تكون عليه القيم الإنسانية، لم تعُد الحصانة الفكرية أداةً من أجل استمراريّة النموذج الغربيّ؛ لأنّه يعبّرُ عن قضاياهُ من داخل واقع مأزوم، وواقع يفرض على الإنسانية في كلّ مرحلة من مراحل تطوّرها المرور بمحن وأزمات تكاد أن تقضي على البشر جميعاً. ليس هذا التقويمُ أداةً من أجل إنهاء مشروع الفلسفة – الغربية – وإنّما هو دعوة من أجل التفكير في "فلسفات"؛ أي الفلسفة بصيغة الجمع، والتّحرّر من النموذج المعياريّ، والذي ألقى بظلاله على البشريّة لمدّة طويلة.
ينبغي أن يكون أساسُ تلك المراجعة، إذن، منبثقاً من إعادة تعريف الفلسفة بما يتماشى مع سياقنا العربيّ، ومن خلال طبيعة الأسئلة التي يفرضها وجودنا؛ لأن التساؤل أداة نستأنف من خلالها وجودنا، ونستشرف من خلالها مصيرنا، ومن أجل تحديد الفلسفة – عربيًا – وجب علينا أن ننظرَ في المعاني التي تؤسّس لثقافتنا العربيّة، وما يجعلنا – حقيقةً – عرباً، ذلك هو السؤال الذي لا ينفكُ القائمون به من مفكرينا يجابهون واقعهم من أجل تقديم إجابات حقيقية عنه، إن أسلوبنا في التفلسف نتاجٌ خالصٌ لإشكالياتنا الجوهريّة، ونابع من رغبتنا في مقاومة أشكال التّبخيس التي تحطُّ من كرامة الإنسان.
تؤدّي المساهمة في تكريسِ تفوّق النموذج الغربيّ إلى نفيّ الأصوات الثقافية المغايرة والمختلفة، وإلى تأسيس قيم التبعيّة من داخل النموذج الفلسفيّ نفسه، وهو الأمر الذي يناقض، تماماً، الغايات التي من أجلها قامت الفلسفة، إنها سعيّ حثيث من أجل تحرير الإنسان وتمتيعه بكلّ معاني إنسانيته، لكنّها بالمقابل من ذلك صارتْ صوتاً من أجل استعبادهِ بدعوى أنّه خارج سياق الكونية والعالميّة، وبالتالي فلا وجود للحريّة إلا بالتقابل مع الكونيّة. ليس في هذا المعيار أدنى قبول للاختلاف أو رغبة في التأكيد على أهميّة الآخر.
صرنا إلى الدّفاع عن النموذجيّة الغربيّة في الفلسفة، أكثر مما يفعلُ الغرب أنفسهم، بسبب إرث الماضي القريب الذي ارتبط بالسياسات الاستعمارية التي اكتسحتنا اكتساحاً، وفي تقويم نظرتنا إلى أنفسنا تقويم لتلك النظرة الاستعلائية التي أورثنها الغربُ؛ لأنّ الحقيقة أن الخطاب الغربيّ خطابٌ يتجاوزُ نفسهُ باستمرار، وتشبّتنا بلحظة منه إذن بخرابِ معاييرنا ونهايةِ أيّ إسهام ممكن لنا في الفكر الإنسانيّ. يجبُ أن نعيد نقد التصّور الفلسفيّ الغربيّ، بالقدر نفسه الذي نوجّه به النّقد إلى نظرتنا إلى ثقافتنا، ومن خلال ذلك، فقط، سيتسنى لنا فهم العلاقة بين نموذجيّتنا وما ينبغي أن نسهم به على المستوى الكونيّ.
لدى العرب اليوم ما يؤهّلهم من أجل شق طريقهم في الفلسفة من دون أيّ حرج يذكر، فهم أرباب تراث فكريّ ومعرفيّ نادر، باعتراف الغرب نفسه، وهم أيضاً سادة وبيان، وفي ذلك ما يمكّنهم من اختصار المسافات، لكن وكما أشرت آنفاً، فلا سبيل إلى تحقيق الأمر إلى من خلال إعادة طرح سؤال الهويّة: ما معنى أن تكون عربياً؟ رديفاً للسؤال عن ماهية الفلسفة. هكذا فلا سبيل إلى الانخراط في الكونية من غير تحقيق للهوية، وإلا فإن الراجح أنّ المرء يظلّ في حيرة وشتات فكريين لا يجد معهما قاعدةً صلبة من أجل التفكّر والنظر.
يضافُ إلى ذلك سؤال العملِ؛ لأنَّ التفكير في ما ينبغي فعله من أجل تحرير وضعنا الإنسانيّ، يؤسّسُ انطلاقاً من رغبتنا في تحرير نموذجنا الفلسفي، والعمل عليه من خلال الاعتراف بالنماذج والمحاولات الفكرية من داخل الوطن العربيّ على أساس أنها محاولات فلسفيّة وليست مجرّد أفكار. يندرج سؤال العمل في الإطار النظريّ الذي يعيد مساءلة الأدوار التي تلعبُها المؤسّسات في استمراريّة الخطاب المركزيّ الغربيّ، ويضاف إلى ذلك أنه ما من معيار يقوم على أساس تفوّق الغرب يمكن تبريره من خلال الحجّة أو المعرفة، أليس "العقل أعدل قسمة بين النّاس" كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي الشهير رنيه ديكارت.
لقد حادت النماذج الفلسفية الغربية – الاستعماريّة، عن جادة الفلسفة الحقة، وزكتها التبعية العمياء لمختلف تصوّراتنا التي تتسمُ بالوثوقية والدغمائية التي لم تستطع الانفكاك من ربقة المعيار. لا يوجدُ في الفلسفة معيار نهائي قطعيّ، وكما أن اليونانيين ورثوها عن الحضارات الأخرى وتصرّفوا فيها بناءً على نهجهم الحضاريّ، فقد تسلّمها العرب المسلمون في لحظة أخرى من تاريخ تطوّرها.
لا يمكنُ اعتبارُ الفلسفة حكراً على حضارة من الحضارات أو مجتمع من المجتمعات، وأولى خطواتنا على سبيل التحرّر الفكري – كعرب – هو الانخراط في هذا النهج الرامي إلى تخليص الفكر ومعه الوعي من سلطة التمركز، وتوخي النظر في الفلسفة بصيغة الجمع لا المفرد، لأنّ بذلك فقط يمكن أن نحرّر أصوات الوعي المتنوّعة والمختلفة من سجن النموذج.