تعرضت لمصطلح الأنسنة أول مرة اثناء قراءتي لأحد أعمال د. عبدالوهاب المسيري، ففي معرض تقديمه للحداثة ورؤيتها الكونية للانسان القائمة على اعتباره كائنا أداتيا، الغرض النهائي من وجوده الانتاج والاستهلاك، أشار للأنسنة باعتبارها حلا ممكنا لانتشال الانسان من التبسيط المخل بطبيعته الى استعادة الانسان بكل تركيبه تعقيده واستعادة العالم الاجتماعي والشعوري باعتبارهما جزءا لا يتجزأ من التكوين الانساني.
فيما بعد اطلعت على رؤية تاريخية أكثر عمقا لهذا المصطلح قدمها الفيلسوف يورغن هابرماس عندما استعرض التحليلات لنشأة الأسطورة عند الشعوب القديمة، فقام باستعراض رؤى لعلماء أنثروبولوجيا يفسرون الاسطورة باعتبارها خلطا في التفسير حدث بين عالمين، الأول هو العالم الانساني (الذي يمثل الانسان وعلاقاته ومشاعره وتقاليده) والثاني ما يسمونه العالم الطبيعي (الذي يمثل الطبيعة بكل مكوناتها من كائنات حية وغير حية).
فصار الانسان القديم يفسر ظواهر الطبيعية بنفس الادوات التي يفسر فيها العلاقات داخل قبيلته، فتفسير ظاهرة مثل هطول الأمطار يكون بأن للغيوم أو السماء ارادة ومشاعر كتلك الارادة والمشاعر الموجودة لدى الانسان، فالغيوم تغضب وتفرح كما يغضب ويفرح الانسان فترزقه المطر أو تحرمه منه تبعا لذلك، وهذه الطريقة في تفسير الظواهر الطبيعية أدت الى نشأة عبادة الطبيعة.
الانسان الاول كان يرى أن الطبيعة المحيطة به ينطبق عليها نفس القوانين والمنطق التي تنطبق على الحياة والعلاقات الانسانية، ويمكن ان يسمى هذا الخلط بلغة اليوم تفسيرا غير منطقي أو غير علمي، فهذا التفسير المخل للظواهر المختلفة أدى لإبعاد الانسان القديم عن الفهم الصحيح لقوانين الطبيعة وأخَره الاف السنين عن تقديم تفسيرات صحيحة للظواهر الطبيعية.
يعتبر بعض المؤرخين فرانسيس بيكون هو من أسس لقواعد المنهج التجريبي الحديث على الرغم من ان كثيرين سبقوه إليه، الا أن بيكون يبقى هو من أسس له بشكل منتظم وفصل التجريب عن القياس الارسطي، ما أدى الى تغيير النظرة لما يحيط بنا من ظواهر طبيعية باعتبارها عالما مستقلا عن عالم المفاهيم الانسانية وهو ما أدى بدوره الى احداث ثورة علمية في تفسير الظواهر المختلفة وتطويعها لمصلحة الانسان الحديث.
برأيي أنه وعلى الرغم من ثورية التأسيس المنظم للمنهج التجريبي الحديث الذي عزز فهمنا لظواهر الطبيعة والقوانين التي تحكمها الا أننا مرة أخرى وقعنا بنفس الخطأ والخلط الذي وقعنا فيه قديما، لكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس، فكنتيجة لاعتماد المنهج العلمي في تفسير كل شيء صار ينظر الى الإنسان كما ينظر للأشياء وتستخدم نفس المنهجية والطرق في دراسة العلاقات الانسانية المعقدة.
فصرنا نفسر العلاقات والحاجات الانسانية كما نفسر الظواهر الطبيعية بقوانين علمية صارمة قائمة على التجريب تهمل خصوصية العالم الانساني وتعقيداته التي تجعله مختلفا عن عالم الطبيعة، فلا ارادة ولا حرية للانسان فيها مثله مثل أي شيء آخر بلا مشاعر يمكن تحليله وتفسيره بنفس الطريقة التي ندرس ونحلل فيها الظواهر الطبيعية كالجاذبية الارضية أو قوانين السرعة لدى نيوتن.
وهنا تكمن جذر المشكلة التي تحاول لفظة "الأنسنة" حلها، فهي لفظة حديثة النشأة تولدت الحاجة اليها كنتاج للتطور العلمي الهائل الذي صار يعالج المشكلات الاجتماعية والانسانية بنفس الطريقة والمنهجية العلمية الصارمة التي يطوِع بها الطبيعة لخدمة أغراض الحداثة، فربما يكون مصطلح "الأنسنة" مجرد اقتراح لتطوير منهج علمي جديد لدراسة الانسان وعلاقاته بطريقة تختلف عن دراسة الطبيعة.