هذه المعرفة ما لم تخضع لتحويلات داخلية (أي لإخراج)، فإنها لن تكون أبدا وقودا للمعنى. فالبناء الفني لا يتأسس استنادا إلى رصد الوظيفي المباشر، كما أن موقعه لا يمكن أن يكون الجمل المحملة بأحكام فكرية سابقة. إنه لا يتجلى إلا من خلال ترتيبات داخلية خاصة تطال الأشياء والأفعال ومجمل العلاقات الإنسانية. فالوقع الجمالي، قد يكون منبثقا عن إحالة ضمنية على شيء ما، أو نتاج تصوير مباشر لواقعة لا تدرك إلا من خلال ربطها بحدث قيد التأسيس، أو تعبيرا عفويا عن انفعال بالغ الخصوصية في سياق عرضي.
وتلكم هي الآليات التي تستند إليها الرواية للتخلص من مسبقات البناء الفكري لتصبح هي المنتجة للفكر في كل تجلياته. فالفكر لا يصنع رواية ولا يشيد عالما فنيا.
هذه الآليات ذاتها هي أداة الرواية ووسيلتها من أجل استدراج القارئ إلى عوالمها، وتوريطه في اختياراتها. والحدث ضمن هذه الآليات هو البؤرة القادرة على استيعاب مجمل الانفعالات الانسانية.
هذا ما ينعكس على بناء الشخصيات ذاتها. فالشخصيات التي تعد عصب النص الروائي ومبرر وجوده تبنى، في مجموعة من الروايات، خارج الحدث وبعيدة عنه، فهي تحمل في الغالب الأعم، مضمونها قبل الحدث وفي انفصال عنه، فالاختيارات السردية واحتمالات التطور معطاة مع الشخصيات ذاتها. ووفق هذا البناء فإن الشخصيات تعد جزءا من تصنيف فكري يشكل في ذاته برمجة مسبقة للفعل والصفات والمصير المرتقب.
إن هذه الكيانات تتحرك داخل عالم "عار" تتحكم فيه "الوظائف التصنيفية" (بالمفهوم البروبي للكلمة) ولا يكشف عن نفسه من خلال جزئيات الفعل وتفاصيل السلوك. والوظيفية هي إحالة على الجاهز والمسكوك والمعروف، إنها تبنى خارج القرائن والسياقات الصغيرة والانزياحات السردية الفرعية، كما لا تغتني بعلائق تنوع من مضمونها وتقوي من سمكها وكينونتها. وبمنطق آخر غير هذا لن تكون العوالم المبنية مغرية، إنها هنا تلبية لحاجة أخرى، فهي تبنى استجابة لكليشيهات فكرية أولية وليست حصيلة وصف وسرد لفعل إنساني تستوعبه استراتيجية سردية تسير في اتجاه خلق تلوين ثقافي سنده شخصيات النص لا الأفكار المجردة. فالشخصيات الروائية تُبنى ضمن استراتيجية الفعل السردي، ولهذا فإنها «مرغمة على الفعل وفق قوانين العالم الذي تسكنه، والسارد أسير مقدماته». فلا وجود لفاصل في هذه الحالة بين سمك الشخصية وخصوبة الحدث.
الروائي يأتي أحيانا إلى النص والمعاني بين يديه، ولا يقوم بعدها سوى بالبحث عن وضعيات وأحداث تستوعب المعنى وتمنحه وجها حدثيا. فكل شيء جاهز ولا ينقص سوى الوعاء الذي يحتوي الفكرة ويقوم بتشخيصها. هذه الاستراتيجية تحول الفكرة إلى شيء سابق على الحدث، ويمكن بسهولة تصورها في انفصال عنه، إنها أساس البناء السردي ومبرر وجوده. وفي هذه الحالة سيكون بمستطاع المتلقي تصور الفكرة قبل استيعابه للحدث الذي يخبر عنها، فالقصد هو الأساس، أما الذرائع فكثيرة ومتحولة.
قد يوحي هذا العالم من خلال وضعه ذاك، أن الأمر يتعلق بـ"فعل سردي"، إلا أنه فعل لا يمكن أن يرقى إلى مصاف الفعل القادر على تأسيس نص روائي تتعدد معانيه وتتشعب تأويلاته. إن غنى الدلالات وتنوعها مرتبط بغنى الوضعيات والأحداث التي تصفها. فالرابط بين فعل السرد وبين "الأفكار" ليس واقعة تُشخَص، بل رؤيا تلتقط المعرفة من رحم الحياة لحظة انبثاقها من سلوك مفرد أو جماعي. فالآثار المعنوية التي يولدها النص الروائي لا يمكن أن تكون نتاج فكرة توضع في الحدث، بل هي نتاج السيرورة التي يتم من خلالها بناء الحدث ذاته.
على هذا الأساس، فالعالم الذي تبنيه الرواية يجب أن "يكون كثيفا في أبسط جزئياته" ( إيكو). ولا علاقة للكثافة بـ"الكم المعرفي" المدرج في النص، بل هي كذلك من خلال القدرة على بناء "وضع" لا يمكن أن يكون أحاديا في تأويله وتلقيه.
بالتأكيد لا يمكن أن تكون الرواية شيئا آخر سوى تمثيل مشخص لحالات معرفية، ولكن هذه الحالات المعرفية لها وضع خاص، فهي لا توضع بشكل مباشر على لسان الشخصيات، ولا يتم تداولها من خلال الحوارات أو تعاليق السارد أو أصوات أخرى. إنها رؤية تخص نسج العلاقات الإنسانية والأشياء وتخص صياغة الوضعيات ونمط تصورها. أو هي بلغة أخرى تجسيد فضائي وزماني للمعنى. فالمعنى سيرورة وليس كما، إنه مبدأ للتنظيم، فما يحيل على الدلالة هو ذاته ما يحيل على تنظيم التجربة وإدراكها وتعقلها. ولهذا السبب، فإن المعنى في النص الفني لا يُبث علانية في ثنايا الأشياء، ولا يوضع "عاريا" و"حافيا" على شفاه الكائنات، إنه يولد وينمو من خلال ما يؤثث الكون الروائي.
لهذا فإن المعرفة لا تلج عالم الرواية على شكل قوالب وأسماء وإحالات على كتب أو نظريات، ولكنها تتسرب من خلال التعليق على الحدث وتصوير الشيء وتداوله. إنها المادة التي يصاغ منها العالم الممكن والفعلي على حد سواء.
فـ"الكتابة تحول المعرفة إلى احتفال دائم" على حد تعبير بارث.
إن الكتابة صياغة للأفكار على شكل "أمارات " و"قرائن" و"جزئيات" لا ترى بالعين المجردة. إنها تحول ما يبدو وكأنه عرضي وقابل للزوال إلى لحظة خالدة في التاريخ الإنساني، وتلك هي الآليات التي تحول حيا أو شارعا إلى فناء يروي قصة الإنسان في ماهياته المتعددة. فبما أننا لا نستطيع استيعاب كل ما يمكن أن يحدث في حي من أحياء المدينة أو شارع من شوارعها، فإننا نستعيض عن هذه المعرفة المطلقة بالتكثيف والإحالة على النماذج. فالنموذج، على خلاف النسخة المفردة، مطاطي وقابل لأن يستوعب ما يعود إلى آلاف الشخصيات كما يبدو ذلك في المعيش الواقعي. وتلك هي الخاصية التي تمكن القارئ من إدراك مضمون كل الوضعيات، حتى تلك التي لم يعشها أو لم يرها من قبل، فبإمكانه استنادا، إلى سلوك يرصده السرد، أن يحين الوضعيات التي يعرفها أو يحن إلى تحقيقها أو يريد تجنبها.
وتأتي "الذاتية"، أو التعبير عن ملكوت الذات استنادا إلى تجربتها المفردة في مستوى ثان من القصور. فالشائع في التجربة الروائية المغربية أنها مرتبطة شديد الارتباط بالسيرة الذاتية وأساليبها في الحكي والتعاطي مع الأحداث. والسيرة الذاتية نموذج خاص في السرد أداته "أنا" تكبلها وقائعها وتأسرها العين التي بها ترى وتصف وتسرد. والفاصل بينها وبين والرواية بين وصريح وليس هذا مجال بسط تفاصيله. نكتفي بالقول إن الرواية، في ارتباطها بعالم السيرة، تبني ذاتها استنادا إلى تفاصيل عالم الذات "الفعلي" ورؤاها الخاصة، لا إلى عالم التجربة كما تصوغه العين التخييلية. فملء ثغرات "المفرد المخصوص" بالمتاح الحدثي الجماعي لا يقود بالضرورة إلى خلق نص روائي.
والحال أننا لا يمكن أن نصنع عالما روائيا يتجاوز الفردي ويخلق من ملكوت الذات الساردة نفسها حالة وعي جماعي بالاستناد فقط إلى تجربة مخصوصة لا امتداد لها خارج الدائرة الضيقة لفرد معزول يعيش حالة فقر في الفكر والوجدان.
إن "الأنا السيرية " تكبل الفعل السردي وتقلص من حجمه وتعوق انطلاقه نحو ارتياد العوالم المخيالية في كامل غناها وتنوعها. فالحدث القابل للسرد هو ذاك الذي تجود به الذاكرة، وتصوغه "الأنا" باعتباره واقعة "حقيقية"، يُصَدٍّق عليها الزمان والمكان، وليس حدثا يبنبه الخيال المتحرر من مقتضيات التصديق.
إلا أن العالم المبني، استنادا إلى هذه "الأنا"، لن يكون سوى صدى مبحوح لتجربة فردية محدودة في الزمان وفي المكان. فالذاكرة قد تسمح لصاحبها باستحضار كم حدثي هائل، ولكنها بالتأكيد لا يمكن أن تقوده إلى بناء رواية. فالرواية ليست سردا لأحداث، بل هي تسييج لعالم مكتف بذاته وقابل للعزل.
إن التخلص من الانفعالات اللحظية شرط ضروري لبناء عالم يتجاوز الفردي والذاتي، حتى وإن تم التعبير عن هذا العالم من خلال "الأنا" وضمن دائرتها. فليس الضمير هو الذي يحدد سمك الحدث وامتداداته، «فالذاتية، كما يقول كريزينسكي، صوت ولكنها أيضا أداة نسرب من خلالها كل ما ينتمي إلى الجماعي». ولهذا السبب فإن "الأنا" الدالة على الواحد، هي صوت للجماعة لا صدى لفردية معزولة. وحين يصبح الأمر كذلك، فإن الفعل السردي يتخذ شكل سيرة ذاتية متحررة من قيود الرواية، وأهم هذه القيود مقتضيات بناء عالم دلالي يستند إلى تناظرات تنسجها آلية السرد التشخيصية.
الذات في أقصى لحظات عزلتها تظل نموذجا اجتماعيا لا يمكنه أن يصوغ انفعالاته المتنوعة بعيدا عن الصور التي يبلورها المجتمع لهذه الأفعال. فـ"الأنا هي النموذج الذي يبلوره المجتمع لكل الأنات الممكنة"(بورس). فما يعود إلى الذات هو حالات اجتماعية وليس مضمونا في نسخة واحدة.
ولهذا فإن التعبير عن الذات نفسها لا يمكن أن يتم خارج الإحالة على معطيات الثقافة والتاريخ والإيديولوجيا. وهذه العوالم لا يمكن التعبير عنها من خلال تجربة فردية محدودة محدودية "الأنا" التي تستثيرها. ولقد فشلت الرواية المغربية، في بعض نماذجها، في تحويل الذات إلى كوة يتسرب منها ضوء الاجتماعي العام ويعبر عن نفسه من خلال أصوات لا تخضع لمركزية "أنا" متسلطة فكريا وحدثيا. والحاصل أن هذه التجربة قدمت لنا مجموعة من الروايات التي تحكي عن عوالم، هي عوالم سردية بالتأكيد، إلا أنها مسيجة بالموروث الفردي لل" الأنا"، ومحكومة ب" واقعيتها". إن السرد في هذه الحالة عاجز عن تصور عالم لا يكون فيه للتجربة الفردية سوى جزئيات لا تكاد ترى.
وبالتأكيد فإن مصدر الفشل هو طريقة التعبير لا التعبير ذاته. فالارتماء في أحضان الصياغات اللغوية المفصولة عن أي حدث، في محاولة لصياغة عالم ذاتي لا يؤطره فعل، هو خوف من الحدث ذاته. صحيح أننا لا يمكن أن نتخلص من "الأنا"، فـ"الأنا"، كما يرى ذلك بنسالم حميش، «لا يمكن إقباره وطمسه، إلا أن هوابطه وصواعده في مغارة الباطن لا تكفي لخلق الكتابة الأدبية من حيث هي كتابة ثقافية كلية" إلا أن الفن ليس تصفية حساب مع تجربة فردية . إن الفن على العكس من ذلك «هو التخلص من كل الانفعالات الشخصية». ولهذا فإن التخلص من الذاتية يكون، في حالات كثيرة، هو الضمانة الوحيدة على تحيين كل الذاتيات الممكنة لإدراجها ضمن العوالم التي تبنيها الرواية.
التخلص من هذه الانفعالات هو الذي قاد إيكو إلى اكتساب القدرة على تصور رؤيا كاهن قديم ويفشل في تحديد تصوره الخاص. يذكر إيكو في كتابه
"حاشية على اسم الوردة، أن زوجته اتهمته، وقد أشعلا نارا في الخلاء، بأنه لا يعرف كيف يتأمل شرارتها التي كانت تتصاعد وسط الأشجار في اتجاه أسلاك الكهرباء. وعندما قرأت الفصل الخاص بالحريق في "رواية اسم الوردة" قالت له : «أنت كنت تشاهد شرارات النار إذن» فأجاب «لا، ولكني كنت أعرف كيف يمكن أن يتأملها راهب من القرون الوسطى".
على هذا الأساس، إذا كان فهم منطلقات النص الروائي وثيق الصلة بقدرتنا على استحضار الحدث ضمن عالم الممكنات، فإن قراءة نص سردي ما تعلمنا كيف نمنح معنى لكم هائل من الأشياء والأحداث تقع كل يوم في الواقع الفعلي. والنص القوي هو النص الحاضر دوما في الذاكرة وفي الوجدان.
ومع ذلك، فإننا لا نعدم وجود نماذج راقية في التجربة الروائية المغربية، بل يمكن القول إن الربرتوار الروائي المغربي يغتني باستمرار بأعمال بالغة النضج والعمق. وملاحظاتنا هذه لاتسفه ولا تعمم، بل تحاول رصد النقائص من أجل تجاوزها، ليعلمنا الروائيون ما عجز الواقع عن تعليمه لنا.
في جميع الحالات، فإن هذه القراءة هي قراءة نسبية، والقراءات في كل الحالات نسبية، ذلك أن التساؤل عن صحة قراءة ما أو خطئها شبيه بالتساؤل عن مصدر الحلاوة هل هي في مادة السكر ذاتها أم هي حصيلة التفاعل بين هذه المادة وبين جهاز التذوق عند الإنسان أم أن مصدر الحلاوة على النقيض من ذلك تماما هو اللسان لا مادة السكر.