يقول "بول فاليري" يتميز مجتمع الأسرة بوجود نوع معين من الضجر الداخلي المستور ينمو بفضله أعضاؤها ويعيشون حياتهم الخاصة، كما توجد قوة قديمة مقتدرة تسجل وجومًا حين يلتئم شمل الجميع في غرفة الطعام حيث يشعر أفرادها بالحرية في أنْ يكونوا على سجيتهم تمامًا
تشير العبارة إلى أنّ الحياة الاجتماعية للأسرة تتخذ طابعًا متميزًا يمزج بين الإيجاب والسلب ذلك أنّ الأفراد يعيشون بسياق اجتماعي ولهم روابط على شتى المستويات فهناك العلاقة بين الآباء والأبناء، وبين الزوجين، وبين أفراد الأسرة والأقارب وباقي أفراد المجتمع.
الدراسات الإعلامية التي أجريت أشارت لارتفاع معدلات التعرض للمضامين الإعلامية التي تتناول العلاقات الأسرية، وأنَّه تعرض عمدي ومقصود للتعلم وإشباع حاجات نفسية واجتماعية معينة يبتغيها من وراء هذا الاعتماد فكل أفراد المجتمع لديهم مشكلات جدلية في علاقتهم ويبحثون عن حلول لها ويعني هذا مساهمة وسائل الإعلام بحل المشكلات التي يعاني منها الأفراد، لكنها من ناحيةٍ أخرى ساهمت بنشر التوقعات السلبية وتوكيدها من خلال التهويل والتهوين بين أفراد المؤسسة الأسرية.
التحولات التي شهدها النظام العالمي أعطت الخطاب الإعلامي بُعدًا أكثر تعيينًا وشمولاً، وأثبتت أنّ الإعلام بتقنياته هو دافع التحولات الكبرى بالمجتمع ومحركها ومحرضها. فالعالم أصبح يعتمد عليه بتحقيق التواصل والتفاهم والترابط حتى بات أحد روافد التنشئة الاجتماعية في الوقت الراهن، ومن هذه الدلالة نستخلص أنّ الإعلام أصبح له الجبروت بتشكيل المعرفة وتكوين الأفهام الإنسانية أو العكس حيث تدمير النظم القِيَميّة في المجتمع وهو ما طرأ على مجتمع الأسرة، فمثلًا تغير الخطاب الصحفي بالمجلات الأمريكية في تصويره واتجاهاته نحو الأسر أحادية العائل، كان ينظر إلى هذه القضية أولًا كظاهرة اجتماعية جديدة مرفوضة ثم تطرق الخطاب إليها كمشكلة باحثًا عن أسبابها وبحث حلول لها، وبالتالي تم قبولها كواقع اجتماعي وكحقيقة يجب التعايش معها.
يوميًا يقف الفرد أمام سيل فائض من الأخبار ووجهات النظر التي ترسخ وتدعم صورًا نمطية لديه، كما تمده بقوالب فكرية جديدة. وتنامى هذا الأمر بعد عملية عولمة النشاط الإعلامي الذي مارسته القوى الكبرى وما صاحبه من ضغوطٍ لتحرير العملية الإعلامية من القيود الاجتماعية لإخضاعه لآليات السوق والترويج لثقافة عالمية مهجنة (مزيج من الثقافتين المحلية والعالمية) تؤدي إلى تسامح الجمهور، وإلى استيعابه للثقافات الأجنبية المتعددة بشكلٍ يجعله يخلق مركبات أسرية جديدة داخل أطره المحلية عبر آليات التفكيك والتشويه والإضعاف حتى تحدث سيطرة لباقي آليات العولمة.
من هنا تحول الخطاب الإعلامي من خدمةٍ إلى سلعةٍ يتم تصنيعها وفق رغبات الجمهور وليس بحسب احتياجاته. وأصبحت أيُّ محاولة لضبط الآداء الإعلامي عدوانًا على التحرر الذي اختلقته العولمة. وقوى هذا الاتجاه التطور الذي شهدته تكنولوجيا الاتصال والمعلومات في الآونة الأخيرة حيث أسهم بتسريع نفاذ هذه المضامين للجمهور وذلك بسبب تعدد وسائل وقنوات الاتصال التي يتعرض لها الفرد سواء المحلية أو الأجنبية؛ فتوسّع له مجال الاختيار بين البدائل كما باتت الوسائل تتنافس فيما بينها لكسب القارئ، التحول للمشروعات الخاصة في قطاع الإعلام، ما ترتب عليه تخفيف الرقابة على قنوات الاتصال بسبب سيطرة وهيمنة المعلنين، ورجال الأعمال على القطاع الإعلامي ببرامج ترفيهية تعمل على تسطيح الوعي، وتبعد بهم عن مناقشة قضاياهم، وما يمس صالح حياتهم. 3- تدني مستوى البرامج لاجتذاب أكبر عددٍ من المشاهدي،ن فمعظم البرامج مبنيّة على أسلوب الإثارة والتجييش العاطفي المبتذل الذي يهدف لتغريب الفرد داخل أسرته.
كثرة البرامج المستوردة المروجة لثقافة أجنبية بعيدة عن ثقافة الأسرة المحلية بشكل يهدد الهوية القومية، بغرض سد ساعات البث فحسب، والتعامل مع الإنتاج الإعلامي باعتباره سلعة تقاس جودتها بعدد المتابعين بغض النظر عن توافر المعايير المهنية التي لابد أن تتوافر بها.
بروز المواقع الاجتماعية التي أتاحت للجمهور ذاته فرصة القيام بإنتاج الخطاب الذي ينقل قضاياه ويعبر عنها ولكن بشكل هوائي وعشوائي ترتب عليه زيادة الطرح السلبي في قضايا الأسرة وهو ما نراه بصورة منتشرة في هذا الوقت، ارتضاء معظم الحكومات بالدول أنْ تحتفظ بضبط الخطاب السياسي بوسائل الإعلام تاركةً ما دون ذلك يتبع أهواء المنتجين. أو استغلالها لبعض القضايا الاجتماعية من أجل كسب الرأي العام نحو موافقها من ذلك استخدام (كلينتون) حق الفيتو في رفض قانون حظر ومنع الإجهاض في الفترة المتأخرة مما له أكبر الأثر على طرق صياغة الصحفيين للقضايا المرتبطة بالإجهاض فيما بعد.
فإذا كان هذا الأمر مقبولًا في المجتمع الغربي بحكم الثقافة والديانة والظروف الاقتصادية فمن غير المقبول أنْ يكون الإعلام العربي أكثر إسرافًا في بث مثل هذه المضامين التي تعارض قيم الأسرة وثقافتها الإسلامية. إن مكمن الخطورة في أنّ وسائل الإعلام لا تمثل السلطة ولا السلطة المضادة وإنَّمَا تُشكل الواقع حتى وإنْ كان هذا الواقع غير حقيقي ومزيف وَوُضِعَ لرغبة ومصالح أطراف معينة ومع ذلك تعمل على صناعة الرضا والقبول لهذا الواقع الذي صنعته. فقد كشفت الدراسات الإعلامية أنّ اعتماد الجمهور على وسائل الإعلام جعلها تسيطر على الأبعاد الثلاثة (الأفعال- التفكير- الانفعالات) في سلوك أفراد الأسرة؛ وبالتالي علاقتهم الداخلية فيما بينهم وعلاقاتهم الخارجية مع المجتمع، فالتفاعل الأسري يتأثر في ضوء الاشباعات المطلوبة جرَّاء استخدام هذه التكنولوجيا، بجانب نسق القيم السائدة داخل الأسرة.
ومن هنا يعاد إلى الأذهان الحديث عن المسؤولية الاجتماعية للخطاب الإعلامي، ودورها في تطوير القيم السائدة في العلاقات الإنسانية، وضرورة توظيفها توظيفًا رشيدًا بحيث لا يقتصر دوره على عرض الأفكار والآراء بل يمتد إلى التأثير في الاتجاهات بالتدعيم أو التبديل من خلال إعادة بناء المحتوى وأسلوب إعداده وتقديمه، حتى تُكفل له القدرة على إعادة بناء الأفراد، وتمكينهم من القيام بمسؤولياتهم، وبلوغهم الحياة المحققة لطموحهم بالشكل والأسلوب الذي يمكنهم من استيعابها فالإعلام هو الحراك الذي يؤثر على عملية تطوير الشخصية نحو الأفضل أو يجرها للأسوأ ويبرهن على ذلك الأعمال الدرامية والبرامج التي ساهمت في حل أزمات وقضايا عانى منها المجتمع الأسري كالبرامج الفقهية التي تجيب على استفتاءات تخص حياة الأسرة وتتفاعل معها، وكذلك بعض الأعمال الدرامية كفيلم أريد حلاً الذي نوقش على أثره تعديل قانون الأحوال الشخصية، ومسلسل الوتد الذي عرض نموذجًا جيدًا لتكاتف أفراد الأسرة، وفيلم جعلوني مجرمًا الذي طرح أخطار التربية السلبية على الفرد والمجتمع إلى غير ذلك من الأعمال.
ولكن ما يحدث مؤخرًا يمثل تدهورًا في صناعة الخطاب الإعلامي بشكل عام، وفي صناعة الخطاب الأسري بشكل خاص حيث تناقضت رسالة الإعلام التي خلق من أجلها بسبب لجوء المنتجين إلى نقل أسوأ صور الواقع الأسري جريًا وراء التربح مبتعدين عن المساهمة في تحسين أوضاع الأسرة والمجتمع. مُطعمين الرسالة الإعلامية بالرقص والأغاني والألفاظ الهابطة وكثرة الإيحاءات غير المبررة وزيادة عرض الاجتهادات الشخصية مع تغييب الأصول الشرعية والمجتمعية حتى اصطبغت شريحة غير قليلة من هذا الجيل بالملامح الرئيسية والسمات التي يصورها الخطاب الإعلامي عن حياة أفراد الأسرة في الملابس وتسريحة الشعر وحمل السلاح وتعاطي المخدرات إلى غير ذلك، نضحت قضايا جديدة على إثر ذلك كارتفاع معدلات الطلاق، وتنوعت صور المشكلات والخلافات بين الزوجين مع لجوئهما إلى القضاء، وزيادة العنف والجرائم الأسرية نحو الأبشع، وكثر الصراع بين الآباء والأبناء بجانب ما صاحبها من شيوع توقعات فقدان الثقة في نجاح الزواج، والخوف من الطلاق ما ترتب عليه التهرب من فكرة الزواج أو تأخيرها؛ ومن ثم زيادة العنوسة وكثرة العلاقات المشبوهة في المجتمع خاصة أنّ بعض الوسائل تعمد إلى نشر مثل هذه التوقعات وتأكيدها بين التهويل والتهوين بصورة توحي بعموميتها وأنّها القاعدة، كل ذلك نتج بسبب مردود التصوير السلبي لواقع وجوانب حياة الأسرة في وسائل الإعلام.