يَعرفها أبناء الجيل الجديد الذي لا يكاد يصله من التسعينات سوى أحاديث الآباء العَرضية النوستالجية، يُعجَب بها المراهقون والشباب منهم زيادة على أبناء جيل الثمانينات وما قبلها. إنها أغاني سنوات التسعين التي تكتسي، لاسيما الشرقية منها، طابعا سحريا من الأزلية عندما يتعلق الأمر بتاريخ صلاحيتها الذي يبدو أنه لا يحدّه زمن معيّن إلى حدود يومنا هذا.
رحلة طويلة بلا وعثاء سفر
بأحزانها وأشجانها وحماسها وألحانها الأمّارة بالفرح والرقص، تقتحم العديدُ من عناوين أغاني التسعينات الريبـرتوارَ الموسيقي لشباب اليوم، وكأنها قد وُلدت للتوّ، تندلق في آذانهم وأرواحهم فتفعل بها ذات ما سبق وفعلته بقلوبنا قبل سنوات، وهو أمر لا يمكن أن نعتبره- بعفوية- من مآلات الموسيقى العامة، إذ أن كثيرا من أغاني محطات زمنية أخرى لم تعرف هذا الصمود المائز الشُّجاع، ولم تستطع في أحسن الأحوال إلا أن تَعْلق بشكل باهت في صورة بقايا ألحان وأنصاف جمل، في ذاكرات قليل من معاصريها أو المهتمين بها من الشيوخ والعجائز لا من الشباب كما هو الحال مع أغاني التسعينات التي قطعت طريق الرحلة الطويلة من سنوات التسعين إلى قوائم هواتف جيل اليوم الذكية بدون أن يُشار إليها بالغباء، وبدون أن يظهر عليها شيء من وعثاء السّفر.
زيادة على ذلك، فقد فرضت هذه الأغاني نفسها برقّة ودون حِجاج فتآخت في قوائم موسيقى شباب اليوم مع أنواع موسيقية وغنائية سابحة في ضفاف نوعية مغايرة تماما، كالرّاب والواي واي والرّاي..، وغيرها من مُفضّلات قد تبدو بعيدة المسافة الذوقية عن روح أغنية سنوات التسعين، بروحها الشرقية النازعة وإن بدرجات متفاوتة إلى الأسلوب الطّربي. إن هذا الفرض الناعم الذي حقّق نفسه بسلاسة ومرونة فنية قلّ نظيرها، يضعنا أمام ميزة جبّارة لهذه الأغاني، وهي ميزة الصمود في زمن التحوّل والتجدّد المتواصل، ميزة القدرة على الولادة المتجدّدة بدل الموت السريع الذي أصاب ويصيب الكثير من العناوين الغنائية في الساحة الفنية المعاصرة، على الرغم من العتاد التقني وحجم التسويق الكبير المنذور لها.
تواصلٌ فنّي متكامل
ولعل ميزة أخرى تظهر عند الحديث عن هذا الموضوع أيضا، وهي ما يمكن أن نطلق عليه ميزة "التواصل الفني المتكامل"، ذلك أن التركيبة المُكوِّنة لهذه الأغاني، من ثلاثية اللحن والموضوع (الكلمة) والإخراج، تكاد تكون في معظمها، على قدمٍ من التجانس والتساوي والتكامل في مستوى الإنجاز، فلا يسقط سهم واحد منها ليرتفع آخر، بل ترتفع الأسهم الثلاثة كلُّها لتشكّل وحدة فنية متناغمة، يكتشفها المشاهد والمستمع فلا يشعر إلا بما يحثه على الاستمتاع بها معًا.
وسواء تعلّق أمر فرادة هذه الأغاني بصفة واحدة أو بأكثر من ذلك، أي بمجموعة من المعطيات الموضوعية أو بولادتها في كنف سياقي فني مُقبل على انفتاح أكبر، أو بأسرار روحانية تفسّر صمودها الجبّار، ما بين مسألة جِدّة إيقاعاتها وألحانها في تلك الفترة، أو موضوعاتها وكلماتها أو ارتباطها بالانفتاح على التصوير على شكل فيديو كليب أو ارتباطها بمحطّة زمنية فارقة و"ذهبية" كما يحلو لأبنائها تسميتها أو بفضل امتداد مسيرة الغناء لكثير من نجومها إلى اليوم، فإن المؤكَّد، أنّها جمّدت ألق زمن التسعينات وحساسيته والشّغف الفني الذي فجّره آنذاك.
دعوة من الماضي للحاضر لاقتسام القمر
مصطفى قمر، إيهاب توفيق، حميد الشاعري، ذكرى، محمد فؤاد، عمرو دياب، سيمون، هشام عباس، نوال الزغبي، عاصي الحلاني، محمد فؤاد، نجوى كرم، أصالة نصري، عبد المجيد عبد الله، باسكال مشعلاني، ذكرى...وآخرون رفعوا التأهب الوجداني لأقصاه، من خلال أغانيهم، وجعلوا من الدقائق التي تستغرقها فُسحا جمالية من المتعة والانخراط الحسّي في حالاتٍ من الممارسة المضاعفة للتذوق الموسيقي استماعا وتدبُّرا، تخفّفا ورقصا، أو تحسّرا وشجنا وتربيتا على الجراح.
" أعتقد أن الأمر له صلة وثيقة بشعور الحنين العامّ الذي يظل يعتري المرءَ نحو كلّ قديم وماضٍ، إننا نحنّ إلى أحباء غادرونا، إلى أماكن رحلنا عنها، إلى طقوس لم يعد بإمكاننا ممارستها، وعليه، فاستعادة أغاني التسعينات هي جزء من حالة الحنين العامة، واستدعاؤها تربيت من نوع ما على أكتافنا ربما لنخبر أنفسنا بأن الأمور لم تتغير كثيرا، وحسبك عشرات التعليقات المثبتة أسفل فيديو على اليوتوب فيه تجميعة من أغاني التسعينات لتأكيد رأيي، إن كمّ الإجماع فيها على التحسّر على السياق الاجتماعي والقيمي والحنين إلى ألقِه الملازم لسنوات التسعين هائل".
"أشعر بأن هذه الأغاني لها قدرة أكبر على تمثيل مشاعري لاسيما تلك الشَّجِنة منها التي تتناول موضوعات الخيانة والخذلان، يبهرني مثلا كيف تستنفر أغنية "تترجّى فيّا" لإيهاب توفيق حواسي وتُنطِق الكلمات الخرساء العالقة في حلقي. إنها متحدّث جيّد بالنيابة عنّي، لنقل إنها "مُحامِيَّ" بدون وكالة، على الرغم من كونها تُعدّ بعيدة زمنيا عن عمري".
"تعرّفتُ على بعض منها في البداية على صفحة فايسبوكية تعنى بتوثيق كل ما يخص فترة التسعينات، ومن آنها وأنا أقوم بتحميل العديد منها في كل مرة على هاتفي لتُجاوِر جنبا إلى جنب أغاني اليوم. تروقني قوة التعبير فيها بالموازاة مع ما تقدمه غالبا من إيقاعات راقصة جياشة".
"إنها نصوص بلاغية صادقة، ولوحات تعبيرية متكاملة، تمثيل ولحن وغناء ورقص وقِصّة...، ومرجعٌ جيد عن البساطة الرائجة آنذاك عن قيم الاجتهاد والصدق والهناء".
" في كل مرة تنطلق فيها ألحان أغنية "حبيبي يا نور العين" لعمرو دياب أو أغنية "سامحتك كثير" لأصالة نصري، أو "عيني" لهشام عباس برفقة حميد الشاعري، من هاتفي، تتلون ملامح أمّي بالغرابة والتعجّب من كوني أنا الشابة التي لم تصل بعد إلى العشرين من عمرها، مستهلكة وفيّة لهذه الفئة من الأغاني التي أسهمت بشكل ما في خلق أرضية ذوقية بيني وبين أمي بالرغم من انتمائنا إلى جيلين مختلفين".
كل هذه الشهادات من أفواه شباب وشابات تتراوح أعمارهم ما بين التسع عشرة سنة والسادسة والثلاثين سنة، تقارب بعضا من الأجوبة المُحتملة لعلامة الاستفهام بشأن صمود أغنية التسعينات وتوهّج ألقها المستمر مُذكّرا القلب الذي عايَشها بخفقاته وإخفاقاته الأولى، ومُلوِّحا لقلوب اليوم بيد صداقة فنية وإنسانية كأنها دعوة من الماضي للحاضر لاقتسام القمر، ونسيان القدر، كما سبق وجاء على لسان "وليد توفيق" عندما أرسل في أغنيته "تيجي نقسم القمر" يقول:
"تيجي نقسم القمر/ أنا نُصّ وإنت نُصّ
(...)
تيجي نسهر كل يوم/ ونسهّر النجوم
وندوس على الهموم/ علشان ننسى القَدَر".