أسبابُ الضَّعفِ في اللُّغَةِ العربيَّةِ
اصطفى اللهُ سُبحانَه وتعالى العربيَّة على سائر اللُّغات وحفِظَها بِحِفظِ كتابِه، فهبَّت جهودُ عُلمائِنا الجبّارةُ خدمةً للقرآنِ الكريمِ، وتيسيرًا على النّاس فَهمَ آياتِه، ولكنّ العواملَ المُحيطةَ في البيئةِ العربيّةِ أدّت إلى تَفَشّيِ اللَّحنِ، وقد ازداد من عصرٍ إلى آخر، حتّى تكادُ تكون لغةُ عصرنا لُغةً أعجميّةً لدى الأمم السّابقة؛ الذين تحدّاهم الله بملَكتهم المُعجميّة بنزول القرآن الكريم، ولم يستطيعوا الإتيانِ بمثله. ولكن ثمّةَ أسبابٌ في وقتِنا الحاضِر أوقَعَتِ اللُّغةَ في شبكاتِ الوَهنِ فازدُوِجَت وثُنِّيَت، وساد الجهلُ بين أهلِها، وفُضِّلت الدّخيلةُ عليها -واللهِ ما الضَّعفُ والضَّعَةُ إلا من خلائِقِها - فعاتب عليُّ الجارم أهلَها في قصيدةٍ ألقاها في يوم الُّلغةِ العربيَّةِ، قائلًا:
والتَرجَماتُ تَشُنُّ الحربَ لاحِقَةً على الفصيحِ، فَيَا للوَيل والحَرَبِ.
نطيرُ للّفظِ نستجـــــديهِ مِن بَلَـــــدٍ نــــــــــاءٍ وأمــــثالُهُ مِنّا عـــلى كــــثــــــب.
ولعلّ مرَدَّ ذلك إلى أنَّ سياسةَ الاستعمارِ التي سيطرت على الشُّعوبِ العرَبِيَّةِ، فَرَضت أنظمتَها ولغتَها بدلًا من الّلغةِ الأمِّ لتلك الشُّعوب، فسَلَبت روحَ الحضارةِ منها، ثُمَّ بثَّت الهيمنةَ الفكريّةَ بين العرب، وجعلتهم ينبهرون بحضارات الغرب فأضعفَت شوكتَهُم، ثُمَّ غَدت العربيّةُ غريبةً عنهم، وما زالت تسعى بهمّتها لتدميرِ الفكرِ العربيِّ بشتّى طُرُقِها، وكما قال الرافعيُّ: "(ما ذَلَّت لغةُ شعبٍ إلّا ذَلّ)".
ولعلّ اللافت للنظر، أنّ هذا الضعفَ قد تخلَّل إلى بعض الطُّلاب المُتخصِّصينَ بها بشكلٍ ملحوظ، بعد أن كان من المُفترَضِ أن ينهضوا لخدمتها، والمحافظة عليها من خلال تعليمها إلى الأجيال، ولأنّني طالبةٌ في هذا التخصُّصِ لاحظتُ الضّعفَ بوضوحٍ في أثناء دراستي، فوجدتُ التَّحدِّياتِ مترابطةً مع بعضها بعضًا.
لربّما كان هذا السّبَب أكثر شيوعًا وهو؛ حينما يأتي موعِدُ اختيارِ التَّخصُّصِ المُناسِب على مواقعِ القبولات الموحَّدة يَكمُنُ في مُشكلَةٍ شائعة وهي اختيار الطَّالبِ التَّخَصُّصِ رغمًا عنه، فيظلُّ فيدرُسه مُتقاعِسًا مُكرهًا جاهِدًا في محاولته الحصولَ على علامة عُليا، وكأنّ العلامةَ كلّ شيء، ثمّ يقطعَهُ الوقت وهو نائمٌ، فيستيقِظُ ليحاول استدراك ما فاته لعجزِه عن دراسة طريقٍ لا يُحِبُّه، فيبدأ بالسُّخط والتذمُّر، وفي نهاية طريقه يُسمِع كلّ مُقبلٍ على الدراسة ما عاناه بطريقة تمثيليّة، ويبدأ بقَذفِ الرُّعبِ في قلوب المُقبلين مُدَّعيًا الصُّعُوبةَ فيها، فمثلُهُ كمَثَلِ من يرقُم على الماءِ؛ لأنّ العملَ يتطلَّبُ حُبًّا وجُهدًا، فترى طُلّابَه يشتكون من أسلوبِه في المادّة، وكأنّه يحمّلهم ذنبَ اختياره، فمهنَةُ التدريس تحتاجُ صبرًا كصبرِ أيّوب!
هُناك من يدرُسُ لأنَّه يُريدُ بلوغ القِمَّةِ، وهُناك من يدرُسُ ليَرقُمَ القِمَّةَ، فينطبقُ على هذا القول هو انتشارُ فِئاتٌ من الدَّارسين الَّذين يبذلون أقصى جُهدِهم للحصولِ على أعلى علامةً، فيمضون في طريقهم على هذا الأساس، فيُكافَؤوا بالنِّسيان فيما بعد، فلا هم امتلكوا أسلوبًا لنقل المعلومة، ولا جنَوا ثمارَ دراستهم؛ وإنَّ الأمانةَ متى ما خانَها صاحِبُها عرّته مَعَ الأيّامِ.
أدّت التّطوُّرات التّكنولوجيّة إلى غيابُ الوعيِ بأهميَّةِ القراءةِ والتَّزوُّدِ بالمعلوماتِ النَّفيسةِ، والتَّقاعُسُ عن الذَّهابِ إلى المكتبةِ؛ وذلك للرّكنُ إلى الشَّبكةِ العنكَبوتيَّةِ؛ لسهولةِ وسُرعَةِ البحثِ فيها، وتوافُرِ المعلوماتِ جاهزةً دون تكليف، وقد نجِدَها عند الفئات العمريّة بشتّى مراحلها.
ثُمّ إنّ غِيابَ المُساءَلةُ من قِبَلِ المحاضرينَ بالتَّشديد على الطُّلّابِ وتكليفَهم بالمهام اليافِعةِ؛ أدّى إلى توانِهم ورَكنِهم إلى مُقرَّراتِ الجامِعَة والاكتفاءِ بها، فَسادَ الكسَل عليهم أجمعين، ولمّا كانت المحفوظات الأدبيّة اختياريّة من الطالب نفسه؛ قلّلت من إقباله على حفظِ الأشعارَ، والنصوصَ الثّمينةَ؛ مما جعلَ المخزون اللّغويّ ضعيفًا.
وقد يؤدّي ظنُّ الطَّالبُ أنّ العربيَّةَ لغةٌ يعرِفُها، فلِمَ يهدِرُ أربعَ سنواتٍ في دراستها؟ فيختارُ لغةً أخرى، وهذه الفكرة عند الغالبيَّةِ أن العاميَّة لُغةُ التَّواصُل والرُّقيِّ والفكرِ، وهذا سيُولِّدُ مشكلةً أخرى، هي قلَّةُ الإقبال على تعلُّمِها؛ بحجّة لا تُوفِّرُ فرصًا جيِّدَةً للعمل، فإذا انحسَرَ مداها فيكون مما فعلَهُ أبناؤُها.
من الأسباب الملحوظة في طلبة المدارس وما يترتّبُ عليه من إشكاليّة وهيَ؛ أنّ الطالبَ يدرُسُ اثني عشر عامًا في المدارِس، لا يخرُج بمعلومات تجعلهُ قادرًا على أن يُعبِّر في صياغة جيّدة، ومنهم غُرِسَت في أذهانهم فِكرةُ أنَّ اللُّغةَ مُعقّدةٌ لا تُفهَم، وما فهِموا منها سوى أكَلَ الطالبُ التُّفّاحة، وشَرِبَ الوَلَدُ الحليبَ. فيكادُ يكون الخللُ إمّا في طريقة نقل المعلومة، أو الأساليب الضئيلة التي يمتلكها المعلِّم.
هناكَ أساليبٌ أحيانًا تكون غير مُناسبةٍ إلى جميعِ الدّروس قد تناقلت من وإلى الكثير من المُعلِّمين في أزمنة مختلفة، منها: التّلقين الَّتي تَدفِنُ فِكرَ الطَّالِبِ في المُناقشات النّافعة، أو بسبب قلةِ الأمثلة التي يُمليها عليها مُعلّمُهُ يأتي حافظًا لأمثلةِ الكتابِ، لا يعرفُ من التَّطبيق شيء، وحين يُعرَضُ عليه مثالٌ غريبٌ لا يعرفُ حلّه؛ لأنّه اقتصر على أنّ القواعدَ حفظٌ، وحقيقة الأمر أنّ غياب التطبيق على أمثلةٍ ثمينةِ يُضعِف استيعاب الطالب الكامل للقواعد، وضعف حصيلته اللُّغويَّة في التَّعبير السَّليم.
وإذا قلنا عن مهارةِ المُحادَثةِ فلا نجِدَها تحظى بالاهتمام أصلًا، يقِفُ الطَّالبُ مُتحدِّثًا ممّا حَفِظَهُ في الورقة الَّتي كتبها له أحدٌ من أهله، فينعكسُ ذلك على اندثار شخصيَّةَ الطَّالب، ويُصبِح غيرَ قادرٍ على التَّعبير السَّليم أمام الجميع، ولا كسرِ حاجزِ الخوفِ والخَجَلِ، فتكون قد اندَثرَت مهارةٌ أخرى بسبب ما تعوّدَ عليهِ في الطالب من حفظ المقصوصات الورقيّة؛ وهي مهارة الكتابة التّعبيريّة، فمثلًا يُطلبُ إليه كتابةُ موضوعاتٍ محدودة الفِكر، على سبيل المثال: عن الأمِّ، أو عن يومٍ وطنيٍّ لا يعلمُ عنه إلّا القليل، ولم يُدرِك الأحداثَ التّاريخيَّةَ أبدًا، وغيرها من الموضوعات المشابهة لها، وبهذا يكون خطاُ المعلِّمِ في إغلاقِ فكر الطّلبة في التفكير خارجَ الصُّندوقِ.
لكلِّ مُشكِلةٍ حلولٌ تَحِدُّ من وجودِها، فإذا كانَ الضَّعفُ مُشبَعًا في سببيَّته من الخلائِقِ، فلا بُدَّ من وجودِ سُلطةٍ تفرِضُ قوانينَها حتَّى تُثمِرَ على الألسُنِ من جديدٍ، ومنها:
أولًا: تشديدُ الإجراءاتِ والشَّفافيَّةِ عند توظيف المُختَصّ، ومن يكُن أهلًا للتَّعليمِ وبانيًا أجيالًا مُثمِرَةً.
ثانيًا: عدمُ التَّقيُّدِ المحدودِ فيما يفرِضه المنهاجُ الدِّراسِيُّ في مهاراتِ اللُّغةِ، فمثلًا صقلُ شخصيَّةُ الطَّلبةِ في حوارِ المُناظراتِ، أو استغلالِ حِصَصِ النَّشاطِ بطريقةٍ مُثلى.
ثالثًا: التَّخلُّصُ من وَضعِ النُّصوصِ الأدبيَّةِ المُقتبَسة من الآدابِ الشَّعبيَّةِ التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوعٍ.
رابعًا: وضعُ اختبار الكفاءَةِ بين السَّنةِ الدِّراسيَّةِ والأخرى، أو رفعُ مستوى التَّقديرِ الجامِعيِّ.
خامسا: استثمارُ إبداعاتِ الطَّلبةِ وتحفيزُهم نحوَ الأفضلِ.
سادِسًا: جعلُ محاضراتِ النَّحوِ والصَّرفِ بين النَّظريَّةِ والتَّطبيقِ.
سابعًا: تَّشجيعُ الطّلبَةِ على التَّحدُّثِ بالفُصحى في المُحاضراتِ.
ما العربيّةُ إلا هُوِيّةُ حضارتِنا، وموروثٌ فخرٌ لنا، فقال عمرُ بنُ الخطَّابِ -رضي الله عنه- موصيًا: "(تعلَّموا العربيَّةَ فإنَّها تُثبِّت العقلَ، وتزيدُ في المروءةِ)"، ويجبُ علينا المحافظة عليها من خلال الدِّراسةِ والاجتهادِ والبحثِ والتَّأليفِ، فهي لغة مستوعبة للتطوُّر وقُدرَتها كبيرة على الإحاطة بالمعاني والأفكار، لَتَشُدَّ الرحالُ إلى طلب تعلُّمها، وتعليمها؛ لعلّنا نكونَ من المناهضين لرِفعتها.