ملحمة كالكامش
الأدب هو وليد حضارات راقيَّة استأهلت تطويق منجزاتِها بواسطةِ سيلٍ من الإبداعاتِ الفنيَّة على بساطتِها، وقد شكَّلَ الأدب حضورا لافتا في الحضارةِ العراقيَّة من خلالِ مجموعةِ من الملاحمِ المدونةِ في ألواحٍ طينيَّة بلغت 12 لوحة تجسد رحلات الملكِ كالكامش رفقة صديقهِ أنكيدو في عوالمٍ يطغى عليها الأسطورة والخيال، للبحثِ عن عشبةِ الخلودِ وتجاوز محنةِ الموتِ.
ملحمة كالكامش والسبق الزمنيِّ
تعتبر ملحمة كالكامش التي دونت قبل 4000 سنة، لوحة فنيَّة عالية الجودة ولكن بمقدار فلسفيِّ وجودي عالي التدفق فهيَ تبحثُ عن مصدر فزع الإنسانِ من انقضاءِ الزمنِ واقترابِهِ من تذوقِ نكهةِ الموتِ باعتباره حتميةً ملازمة لدورةِ الإنسانِ الحياتيَّة، ولو أنَّ ككامش فشل في مسعاه خاصة حينَ ودَّع صديقه أنكيدو للعالم الآخر الغيبيِّ، إلا أنَّه استنطق عبرة مهمَّة مفادها أنَّ الإنسان لا يخلَّدُ إلا بأعمالِ يكون قد أنجزها بمحضِ قدراتهِ العقليةِ والجسديَّةِ.
سبقت ملحمة ككامش نظيرتها الأوديسا والإلياذة بقرون، ونمط تأليفها يوحي بعبقرةِ الحضارةِ العراقيَّة وقدرتِها على استنطاق عوالم النفس في شكل نصوص أدبية تمتاز بالملحميَّة طورا وبالصورةِ المنزاحةِ عن عالمِ الحقيقةِ طورًا آخر، كتوظيفِ الأسطورةِ مثل الثور المجنح، العقارب البشريَّة، وذكر الأمكنةِ العجائبيَّةِ ورحلاتِ كالكامش مع رفيقهِ أنكيدو في سفريَّاتٍ يطبع عليها الرعبُ والغموض.
الأبعاد الفلسفيّة والفنيَّة في ملحمة كالكامش:
القارئ للملحمةِ العراقيَّة سيظفر بمجموعةِ من القيمِ الإنسانيَّة التي تتحدث عن الحبُّ، الصداقة، الحنين إلى الماضيِّ، الحريَّة، عدم التقيُّدِ بأفعال بعينِها، ولعل أعظم رثاء صادقٍ قيل في التاريخ هو رثاء كالكامش لصديقهِ أنكيدو:
رقدَ أنكيدو مريضا أمام كالكامش.
وأخذَت الدموع تنهمرُ من عينيِّه مدرارًا.
فقال لهُ كالكامش يا أُخيِّ وخلِّي علامَ الرَّحيل.
ثم أردفَ يقول وهل سيُحتَّمُ عليَّ أن أرقُبَ أرواحَ الموتَى.
وهل سيكتبُ عليَّ أن أرقُبَ أرواحَ الموتَى.
في المقطوعةِ الشعريَّة أسئلة وهواجس تنتابُ الملك كالكامش وهو يردِّد أناشيد الرحيل لصديقه أنكيدو، كما يبدو الضعفُ النفسيِّ والهشاشةُ العاطفيَّةُ واردة في القصيدةِ الرثائيَّة لحظةِ تأكُّدِ كالكامش بأنَّ الموتَ شبحٌ لا يمكنُ قهرهُ وفي ذلكَ تكمنُ روحُ الملحمة وتوابِلها الأسلوبيَّة النادرةِ.
قبلَ هذهِ الرثائيَّةِ المشبوبةِ بعرى التلاحمِ العاطفيِّ والتكاتف الوديِّ بين كالكامش وأنكيدو، كانت العداوةُ هيَ الرابط بينهما فقد تصارعَا طويلًا إلى أن عقد الحبُّ بينَهما فأصبَحا خليلينِ، يقطعانِ المسافاتِ الكبيرةِ ويوغلانِ في المغامرةِ ابتغاءَ الاكتشافِ كرحلتِهما إلى غابةِ الأرز التي يَحرُسُها العفريتُ خمبَابَا.
بيدَ أنَّ الحاصل فيما بعد هو اضطرابُ أنكيدو من التجوالِ في غابةِ الأرز مخافةَ أن يفتك بهِ خمبَابا بخلافِ كالكامش الذي لم يأبهِ لتلك المخاطر:
"كيف سندخلُ غابةَ الأرز يا كالكامش وحارسُها مقاتل وهو لا ينام أبدًا".
لعلَّ فلسفة الذُّعر التي اعتملت أنكيدو هيَ تدليلٌ على أنَّ الاكتشاف والمعرفة وليدة الجرأةِ والمغامرة وتبيانِ الحقائقِ ولو كانت في فوهةِ مدفعِ أو فاهِ أسد أما الارتعابُ والخوف من المضيِّ نحوَ المجهولِ فيُفسِدُ كلَّ ذلكَ، وهذَا ما ابتدرَ إليهِ كالكامش في قولهِ:
تقدَّم... ولا تَخف...
فإذَا ما هلِكت فسَأُخلِّد لي اسمًا، وسيقولونَ عنيِّ فيما بعد لقد هلكَ كالكامَش في النِّزالِ مع خَمبَابَا المارد.
هنا التفاتةٌ نبهةٌ من قبلِ كالكامش وهي أن الخلود الحقيقي ليس مرهونًا بتجاوزِ الموتِ بل بما تخلِّدهُ من أعمالٍ ستكون شاهدةً عليكَ وعلى فخامةِ اسمكِ كونَك نازلت المردة وأفردت البطولاتِ، ولو رحلتَ عن دُنياكَ، وهذهِ هي الرسالةُ التي أرادَ إبلاغَها لصديقهِ أنكيدو.
تعلِّمنا الملحمةُ كيفَ للإنسانِ أن يكبحَ شهوتهُ ويعليِّ عقله في كلِّ الامتحاناتِ القاسيةِ كما فعل كالكامش مع الإلهةِ عشتار التي تجسَّدت له في أبهر صورةٍ أنثويَّة ومع ذلكَ امتنعَ عن اتباع هواه، ولم يشأ الاستسلامِ لإغراءات عشتار، َ فذلكَ لا يليق بملكٍ استأثر بالمجدِ وارتَضى المغامرة على الراحَةِ في القصورِ والركونِ في موطنِهِ.
ما أنتِ إلَّا موقدَ نارٍ تخمدُ نارهُ في البردِ.
أنتِ بابٌ لا ينفعُ في صدِّ ريحٍ.
أنتِ حفنةُ قيرٍ ثلوِّثُ حامِلَها.
أنتِ بئرٌ تبلعُ غِطاءَها.
تتبدَّى في المقطوعةِ الشعريَّة نبرةُ استخفافٍ من قبلِ الملك كالكامش وهذا لتقزيمِ صورةِ الإلهةِ عشتار التي ارتأت البحث عن مواطنَ ضعفهِ بغية افتنانِهِ واستدراجهِ للتورطِ معها في علاقةٍ آثمةٍ، لكن كالكامش اتَّسمَ بروحِ الملك الخبير والحكيمِ الذي يُقدِّم عقله على حواسهِ اللَّاهثةِ وراء إشباعَ رغباتِها.
لعل تكرار ضمير المخاطب: أنتِ، هو افتعال نوعٍ من الصداميَّةِ بين كالكامش وعشتار لإظهارِ حالةِ الالتزامِ والجدِّ التي شابت شخصيةِ الملك العراقيِّ، كونها لا تستجيبُ مطلَقًا لتلك المظاهر الشائنةِ التي تمتاز بالغوائيَّة، وفتانةِ الجسدِ.
تتَّسِمُ الملحمةِ بذكر الأماكن الغرائبيَّةِ وإضفاء عليها طبع الإدهاش حيث يستوطن تلك الأمكنة كائناتٌ ثُلثها بشريَّة وثلثاها الآخر حيوانية مثل رحلتهِ إلى عالمٍ سفليِّ يحرسُ بابهُ البشرُ العقارب:
أتيتُ قاصِدًا أتو نبشم الذي دخل في مجمعِ الآلهةِ.
وقد جئتُ لأسأله عن لغز الحياةِ والموتِ.
ففتحَ الرجل فاه وقال مُخاطبًا كالكامش.
لم يستطع أن يفعل أحد من قبل هذا يا كالكامش.
لم يعبر أحد من البشر مسالكَ الجبالِ.
حيثُ يعمُّ الظلام الحالكُ في داخِلها.
تتصِفُ المقطوعة الشعريّة بوجود حواريَّة بين حرسةِ العالم السفليِّ المتبديَّةِ في شكل عقارب بشريَّة وكالكامش لإرغامهِ على عدم المغامرةِ والتوغُّل في الظلامِ الذي يرمز إلى تيمةِ الموتِ والفناءِ لكن شجاعة كالكامش كسرت هذهِ القيودِ ورامت البحثَ عن المجهولِ واكتناه خبايا العوالمِ السفليةِ.
وهي بالمناسبةِ تشريحٌ لطبيعةِ للإنسانِ الذي تستهويهِ المغامرةِ والبحثِ عن الحقيقةِ دون مراعاةِ الأخطارِ التي سيلاقيها.
ختامًا مهما أسهبنَا في ذكرِ تفاصيل الملحمةِ العراقيَّة فلن نقتِدرَ على تَصيُّدِ مكنوناتِها الفلسفيَّة والفنيَّة فهي في آخر الأمر تعكس عبقرة الحضارةِ العراقيَّة وتشعُّبِ روافِدِها الحضاريَّةِ.