الجوُّ قائِظ مع ريحِ سمومٍ جافة تتجشَّأ أغبرةً رمادية اللَّونِ، بينَما خيوط الشمسِ الملتهبةِ ما انفكَّت تلفحُ تِلكَ الأجساد المنحنية كَدحًا واِستِعبَادًا في حقولِ الإقطاعيِّ الفرنسيِّ دانيل، مع ذلك تستمر الحاجة زينب في مُطاوعةِ عِنادِها، بالبحثِ عن شَاتها التّائهة وسط الأحراشِ والغابات، معَ كلِّ خطوةٍ تَخطُوها ترفعُ أكفّها تضرّعًا للمولى، أملًا في العثورِ على مصدر قُوتِها الوحيد، ها هي تتوقَّف أمام بركةِ مياهٍ عذبَة شَرِبت حَتى اِرتَوت وطلَّقت ظمأها، غَسلت أطرافها وأزاحَت عن وجهِها سَحنات التَّعاسة، وواصلت المسير نحو اِقتفاءِ وَديعتها الضَّالة.
فجأة تغشَّاها الذُّعر، بَدأت جَوارحها تَرتَجِف، وأسنانها تصطك، كأنّها في زمهرير الشِّتاء، استدارت خَلفَ شجرة الصّفصاف العملاقة، وضَعت يدَها على فؤادِها الرّخو، خِشيةَ أن يتوقف عن النّبض لهولِ المشاهد السَّوداويَّة التي رأتها للتوِّ، شاحناتٌ عسكرية مُصفّحة، بها جنودٌ مقنّعون ينزلون تِباعا وعلى أكتافهم جُثثٌ مبتورة القدمينِ يفوح منها رائحة العفن، وَضعُوها في مغارة مُظلمة، ثم سَكبُوا عليها البنزين وأشعلوا عود ثِقاب، تفحَّمت الجثث عن آخرهَا، على أنغام مُوسِيقى الجوقِ العسكريّة.
كانت الحاجة زينب تُعاينُ المشهد بحذر، لقد تمكنت من التعرُّفِ على بعض الوجوه المتواجدةِ في المكانِ، منهم العقيد السّفاح سيمون الذي اغتصَب ابنتها فتحية ورماها لكلابهِ الجائعة، إلى أن اِرتقت شهيدة عِند بارئها، والعميل النَّذل بوعلام الخنّاب، صاحب الوشايات القذرة التي زُجَّت بشباب القريةِ في غياهب السُّجونِ وجحيم المعتقلات السريّة، هذا إن حالفهم الحظ بالصُّمود والمكوث أحياءً في دهاليزها الضَّيقة، فأغلبهم أُزهقت أرواحهم خلالَ عمليّات الاستجوابِ الوحشيَّةِ.
انتَابَها التّردُّد، ماذا تَصنَعُ الآن؟ هل تظل مختبئة وراء الشّجرة، كي لا ترقبها عيون العقيد سيمون وأتباعهِ أم تفرَّ بجلدها، وتَؤُوبَ لِقريتها مَخذولةً مُنكسرة، بدونِ العثورِ على شَاتها المفقودة، وبين طرفيِّ الاِحتمالين خَامَرتهَا فكرة فدائيّة، إِذْ أمسكَت بِقوَّة على مِقبضِ مِنجلها المُعلَّق في حزامها الحريريّ وطفِقَت تُواسي روحَها المُلتاعة بكلماتٍ موشَّاة بحِبر ِالجسَارَةِ:
"بئسًا لعجوز في أرذلِ العُمر تُطاردُ شاةً قاصِية، الدُّنيا زائِلة والكفاح واجب، والشَّهادة مَبلغ طموحيِّ، لماذا ينبغي أن أستكين أمام هؤلاء الأوغاد؟"
روائحٌ غريبة تُداهمُ أنوف الكلاب الألمانيّة المصطفّة بجانب الرتلِ العسكريِّ الضَّخم، فتشرعَ في النُّباح تنبيها لوجود شخصٍ غريب يتجسَّسُ على العساكر الفرنسيَّة.
العقيد سيمون يُطالبُ من الجُندِ القيام بحملة تفتيش واسِعة، مَخافة أن تُساور الجَبهة ردودًا انتقاميَّة، فَتعدَّ لهم فِخَاخًا حربيّة وسط هذه الدُّروب الوعرة.
تُميط الحاجة زينب الحايك عن جَسدِهَا الهزيلِ الطّافح بالكدمَات، وتنزع من حِزامها المِنجلَ المسنّن ثمَّ تستمرُّ في العياط حتَى أوشكت أوتارها الصوتيّةُ أن تتمزّق:
"الله أكبر، لا غالب إلّا الله أتيتكم بالذبح يا أحفاد المارشال بيجو، الظُّلم لن يدوم، والشّقاء لن يطول، وطعم الحريَّة سنذوقه عاجلًا غَيرَ آجل".
يأمرها الحركي بوعلام الخناب بالاستسلامِ ورميِ سِلاحها الأبيض جانبا، مُقابل ضَمان سلامتها والتّعهُد بِعدمِ أذِيَّتِهَا.
صوتٌ مديد يتدفّق في الأرجاء، ويكسِرُ الحِصار، القنّاصون يتملَّكُهم الارتبَاك، البنادِقُ والرشَّاشات يطالُها الوَهن، خوذاتُ العسكر تتطاير في الهواء، العقيد سيمون يختبئ وراء تلَّة عظيمة عسى أن تحجب عنهُ النيران المضادة، ويبدأ بالصُّراخ:
" نداء.... نداء... إلى كلِّ الجنود.... دعكم من هذه العجوز المجنونة إنّها تريد اِستِدراجَنَا... كي نقَعَ في الكمين الذي نَصبَهُ.. الثُّوّار... اِرجعوا...لمواقِعكم.... الطيران الحربي آتٍ...سيقوم بتغطِيةِ أظهرنا...."
الحاجة زينب تستثمرُ في الوضع المتكهرب...تعود للوراء بخطوتين... وترتمي داخل جوف الشّجرة المعمِّرة، ها هي تسبّح وتكبّر على وقعِ لَعلعةِ الرّصاص، دعما لأولادها الأحرار، تمنِّي النّفس في أن يقوم الفدائيّون بتوغلات عميقة في محيط العسكر الفرنسي كي تستمتِعَ بخسائرهم البشريَّة، إنصافًا لأولئِكَ الأبرياء العُزّل الذين فتكت بهم آلة القمع الاستعمارية.
النزال يتوقَّف، لبَّى الطّيران الحربيّ استغاثتا العقيد، دويُّ القصف العشوائيّ، يملأ المكان رُعبًا المجاهدون الأشاوس ينسحبون تدريجيًّا، بعد أن أثخنوا الجِراح في صُفوفِ العدوّ، تكلُفةُ المعركة باهظة جدًّا، قُتل من جُندِ العقيد سيمون ثلاثةُ ضباط صفّ، وأربعة عرفاء.
شظيّة حارقة تصيب الحركي بوعلام الخناب في معصمهِ الأيمن، دَمُه يُراقُ على التربة بغزارة، إنّه يتأوَّهُ بشدّة، حلّت فرق الإسعاف الجويّ، طائرات الهيلوكوبتر تُجلي الجرحى والقتلى على حدًّ سَواء باستِثناء بوعلام الخناب.
العقيد سيمون يرفض تطبيبَ جراحِهِ، تلفَّظ في وجهه خِطابًا عنصريًّا مَقيتا:
"مهلا أيّها العربيِّ الوقح، تنحَّ جانبا، دماؤك البدويَّة لن تختلط بدماء الفرنسيين النُّبلاء، هذا مُخالف للعرق الإفرنجيِّ الأصيل ووصايَا الأب "شارل لا فيجري" المباركة، سَذَاجتُك قَادَتنا إلى هذه المهلكة دونَما أن نشعر، ستظل هنا لغايةِ أن تشتمّ الذئاب رائحة دمك، وتَقومَ بافتراسك ليلا."
ما كاد العقيد سيمون يُنهي كلامه الموبوء بالغلِّ والتّشفيّ، حَتى بزق في وجه بوعلام المُكفهرِّ بالخيانَة وركلُهُ بعنفٍ على صَدرهِ، أدرك هذا العميل في الحين أنَّ الفرنسيّ مشبَعٌ بالقيم الميكا فيلية فَهوَ غدّار ومُخادع يُجيدُ توظيفك في المناطقِ السَّاخنة التي يصعب عليه الوصول إليها، لكنَّه بمجرد قضاءِ حاجياتِهِ يرتدُّ عنك، ويدعُك مُهينا ذَمِيمًا تتوسَّلُ الحجر والشَّجر.
غادر الرِّتل العسكري المكان، وتركوه وحيدًا كغزالٍ أعرج في البريَّةِ تتصعَّد روحَه الأثيمة رُويدًا رُويدًا إلى السَّماء بزفرات حَسراتِهِ.
العتمَةُ تحجُبُ صهيل الشَّفق، ما على الحاجة زينب إلا أن تُرنِّم تراتيل النّصر تحت عَباءةِ القمر. فقد أوشكت على الموتِ لولا أن تَداركهَا المجاهدون وخلّصوها من مأزقها، لكن بالمقابل ساهمت رباطة جأشها وشدَّة بأسِها في صناعةِ هذهِ الملحمة الحربيّة، فَبِالصُّدفة شتّت أنظار العدوّ، وخرّبت خُططهُم ما جعل أظهرهم مَكشوفة، وقواعِدَهُم مفضوحة أمام مرمى نيرانِ الجبهة.
حمدت الله وسجدَت سَجدةَ الشُّكر، ثُمَّ دنت من العميل بوعلام الخناب، طَأطأ رأسَهُ خجلًا وهَمهمَ بكلماتٍ مُقتضبة:
"أطلُبُ منك الصّفح... خالتي زينب... كنتُ سَببا مُباشِرا في مقتلِ زوجك عبد القادر الأخضري، أنا الذي لفَّقتُ له تهمة التّخابر مع الجبهة، الغيرة دفعتني للقيامِ بهذا الفعل المشين، لأنَّه رجل نبيل وذو أصلٍ، ومواقِفُهُ الوطنيَّة تشهد بذلك."
الدّموع تتجمَّع تحت جفونِها لكنّها تأبى الجريانَ على أخَادِيدَها، خِشيَة أن يُغالبها الضُّعف فتمتنِع عن القَصاص لدمِ ابنتها فتحية، تُحاول أن تستجمع شتاتَ ذاكرتها المهشَّمة، وتستعير بداخلها جُرعَةً مُضاعفةً من هرمونِ الأنفة والحميّة الذي ورِثتهُ عن زوجهَا، لِتحلَّ به عُقد الماضي بآهاتهِ المُلتويةِ على ناصيتها الزجاجيّةِ، وتُزحزح سيرة المراثي الأليمة بفصولها الطّويلة من على مَرافئِها الصّامتة، تحرِّك شفتيها بِبُطءٍ، وتستهلُّ حديثها العلقميّ بذكرى فقدانِ اِبنتها الغالية فتحية:
"اِعلم أنّ كلّ جريرةٍ اِقترفتَها في حق عائلتي فهي في طيّ النِّسيان، إلا تلك اللّحظة الفارقة في حياتي، لمّا أحضَرت العقيد النذل سيمون إلى بيتي ليمتهن جسدِ ابنتي فتحية، لكنّها رفَضَت أن يُدَاسَ عَلى عِرضَها، وقاومت نزواتِهِ الحقيرة بشراسةِ، فَشقَّ بطنها، وغرَزَ في أحشائِها خِنجرهُ المُدبَّب.
استجمَعَت قِواهَا، وحملت بذراعيها المبسوطتينِ حجارة غرانيت صلدة، وهوت بها نحو رأسهِ المنتكس، فَارَ الدّم عُيونًا وأَنهارًا من أثَرِ الضربة الثأريّة، أخذَ الحركيّ بوعلام الخنّاب في الخُوار مثل ثَور مترنِّح أهلكَهُ الذّبح، ثمَّ أسجَت على جثّتهِ رداءَها الأبيض إكرامًا لإنسانيتهِ.
قرَّرت الحاجة زينب بُعيدَ هَذهِ الواقعة المفعمَةِ بالبَسالة مُواصلة الدّرب دون تَعقُّبِ آثار شاتها المفقودة، الأكيدُ أنّها صمَّمت علَى التَّزهد عَن مُتعِ الحياة على بساطتها، والتفرّغ للنضال، من خلالِ تغيير خريطة مَسيرها، فهيَ تودُّ اللّحاق بعرين الجبهة، وأبطالها الشُّجعان المُرابِطِين في شَواهِق جبالِ الونشريس.
أحسَّت برغبة جَامِحة في النَّوم، لم تكترث بالوحوش والسِّباع المنتشرة بكثافة في هَدأةِ اللَّيلِ الدّامس، اِضطَجَعَت على لِحافٍ خَشِن، خالجها حلمٌ نديّ تُخالطهُ علامات مُنجيَة، لقد رأت ابنتها فتحية بقُفطانٍ ذهبيّ ووجه ملتمِعٍ من الضِّياء، كانت تجلس فوق ربوةٍ خضراء، وفي حجرها مِشطٌ بلوريّ، نادتها بصوتٍ خَفيض:
"أمي زينب... لا تجزعي... أنا بخير... قريبا سأعود إلى أحضَانك.... وأقوم بدهنِ شَعرك بزيتِ الخروَعِ المعَطَّر، وأخضِّب يديكِ النّاعِمَتينِ بالحنّاء، حسنا قبل أن تغادري خُذي سبعَ حباتِ تمر.. إنّها من نخيلِ الجنّة الدّانية..."
مع خيوطِ الفجر الأولى، استفاقت من حلمِها الفِردوسيِّ، وهي تتحسَّسُ بدَنهَا، وتقلِّب أطراف أصابِعهَا وتمصُّ شفتيها المتدلِّيتيِّن، شَعَرت كأنَّ منامها حقيقة، عسلُ التَّمر المنسكب من فاهها، أصابعها المخضَّبة بالحنّاء، شعرُها الأملس المنسدِل على كتِفَيهَا....
نهضَت من مرقَدها والرّعاشُ يطوَّقها، جرّاء رسِيسِ الجوع الذي نخر بطنها الضَّامر، لم تجد ما يسدُّ رمقها سِوى مَضغِ أوراق السَّدر، واِلتهام رُبطةٍ من عُشبِ البرسيم، نفدَت طاقَتها، ما عادت قادرة على المشي،حبَّات العرق البارد تنحدر على الوَشمِ الذي يتوسَّط جَبينها، الضَّبابُ يطمس نَاظِريهَا، تستجديِّ الله أن يعاجلها بالموت الرّحيم، إ نّهَا تئنُّ تحتَ وطأةِ العذابات الجسديَّة، نصَبت سبَّابتها للسّماءِ وهيَ تتلُو دُعَاءها الوَحيد الذي حَفِظتُه في صِباها عن الشّيخ شريف البُوهاني شيخ الطَريقةِ الشّاذليَّة:
" يا رب أنت الكريم وفِيكَ أحسنتُ ظني فلا تخيِّب رجائيِّ"
بعد هنيهة أطّل عليها، من بين الشِّعاب رَجلٌ مُشوَّه الخِلقة، قَميء الهيئَةِ، ليس لَهُ من مِعالم الآدميَّة إلا صوتُه الأجش المصحوبِ بالسُّعال، كان يرتدي جبّة زرقاء، كثيرة الرّقع، وعمامةً سَوداء مرقَّطة عصَّب بها رأسه، وأمامه قطيعٌ من الأغنام والماعز، يسُوسُها بعصاه الخشبيّة، غطَّى بظلِّه المُنساح جَسد الحاجة زينب المنكمش، ثمّ صبّ على وجهِها الكَالح دفقاتٍ من ماءٍ بارد تخفيفًا لِلَسَعَاتِ الحرّ وناولها كِسرة شَعير، وطست لبن، كي تَطردَ مَخمصَة الجوع، اكتنفتها الرِّيبة من طيبةِ هذا الرّاعي ومعزّة كرمهِ.
ماذا يرنو من وراء هذا الجُودِ والإغداقِ يا تُرى؟، خَنقَتهَا الحِيرةُ، وطَواهَا التعجُّب لمّا ناداها باِسمِها:
"خالتي زينب.. الدَّرب طويل.. والمسارات نحو الجبل جدُّ مُضنية، اِرجعي لدِياركِ.. الجبهةُ تثمِّن كفاحك المقدَّس."
وضعت كفّها على خدِّها المتورّد وتخطَّفتهُ بسؤالٍ يَسري بَينَ جنَباتِهِ لهفَة الشَّوق:
ألستَ أنت العربي ولد الحَسن؟ أذكر أنك كنت تجوب قريتنا بعربتكَ تبيع الأواني الفخاريّة. ثم انقطعت أخبارك تَمامًا، ظننتُك استشهدت، تبدَّلت ملامحك، الحروق اكتَسحَت جسدَك، لذا صَعُبَ التعرُّف عليكَ لولا صَوتك المبحوح الذي أيقظَ ذاكرتي.
قامت وعانقتهُ بحرارة، قبّلته على رأسه المعصّب، فبِفضلهِ تغبَّطها الفرج، ولولاهُ لكانت في عِداد الصّرعى والهالكين، فكأنَّ القَدَر بذلكَ حاباها مرّتين، لتنسلَّ مِن مَخالبِ الموتِ كما تنسلّ الشَّعرة من العَجين.
استلطف براءتَها، وقصَّ عليها حكايتهُ المأساويَّة، بتفاصيلها البالغة الأثر:
"في مساء يومٍ خريفيِّ، اِجتَمَعنا في دار أخي الطّاهر، ابتهاجًا بختانِ اِبنهِ، تناولنا الكسكسيَّ بالمَرق رقَصنَا على أنغام الطَّبل والزرنة، وفجأة تنزَّلت علينا مِنَ السّماء قنابل "النّابلم" الحارقة، كانَ المنظر أشبهَ بحفلةِ شِواء، جلُودُنا اِلتصَقت بالِحجَارة، كُنّا نصرخ من الألم، استشهدت عائلتي كلُّها، أنا الناجي الوحيد من الغَارة الجويّة، لقد تدثَّرت بحصير مُبلَّل، ساهم في امتصاص الحروق وبقائي على قيدِ الحياة".
أمعنت الحاجة زينب في سلاحه النَّاري الذي يتأبّطه بفخر وحَفاوةٍ، وشحذت هِمَمَهُ بسيلٍ من الرَّسائل الوطنيَّة:
"عُد إلى مَعمَعَةِ نِزالِكَ أيّها البطل، الثورة ستكتمِلُ بهزيمة الفرنسيينِ وعملائهم، أمّا حُروقك فهيَ نورٌ يُطلَى عَليكَ يومَ القيامة".
ضحك حتى بَدَت نواجذه، وانبَسطت أساريرُه، وقال:
"ليس قبلَ أن أهبك هذا القَطيع منِ الشِياهِ برمَّته، منحته لك الجبهة عربون كِفَاحِك المستميت".
نازعت روحها الوديعة نسائِمُ البهجة والمسرّة، اتّسعت حدَقَتا عينيها طربًا، شعرت بنعمةِ الوطن وعَطَاياهُ المستفيضة، فمن تائهة في جوفِ الغابات المظلمة، تبحث عن شاتِها الوحيدة، إلى مكافحة ثوريَّة تداعت عليها الأرزاق من كلِّ مَصبٍّ، نظيرَ قلبها الطيِّب، وحسَّها الوطني السَّليم، الذي يَستنكِفُ عنِ طاعةِ الحَركى وأسيادِهم الغُزاة القادمين من وراء البحار للاستيلاءِ على خيراتِ الجزائِر وجعل أهلها عَبيدًا ومُسترقِين.
هكذا جمعت تلك الشَّاة الشّاردة كلَّ ضُروبِ المفارقة في دُنيا الحاجة زينب فهيَ دليلُ حظّها، وموضِعُ ابتلائِها، وسببُ مَغنمِهَا، وأداة جَذبٍ للتَّلاحُمِ مع ثورتِها بفعل الاختِبَاراتِ العَسِيرة التي صَادفتها في طَريقِها والتي أبانت كلُّهَا عن سُموِّ معدنِها وسُموقِ تضحياتِهَا.
الهوامش:
النَّابَلم: سلاح كيمياوي حارق استعملتهُ فرنسا لإبادةِ الثورة وإجهاضِ مُخطَّطَاتِهَا.
الجبهة: اختصارا لحركةِ جبهةِ التحرير الوطنيِّ التي أعلنت النفير العام لمحارَبةِ الاستعمارِ الفرنسيِّ. الحَركى: هم الخونة والعملاء الذين باعوا أوطانهم لصالح العمالةِ لفرنسا ويطلق عليهم تاريخيا مصطلح الأقدام السَّوداء.
الجنرال بيجو: تولى حكم الجزائر من 1840 إلى 1847 مَارسَ كل أنواعِ القتلِ والتهجير والإبادة لتوطيد الاستعمار في الجزائر.
شارل لا فيجري: أكبر مبشر للمسيحية في الجزائر، كان يستغل فاقة الأهالي وعوزهم لتعميدهم وتغييرٍ دينهم حيث دأبَ على حملِ الصليب في يمينهِ والخبز في يسارهِ.
جبال الونشريس: سلسلة جبال تقع في الشمال الغربي من الجزائر احتضنت معارك ملحمية كبرى أهمها معركة وادي العلالة في نوفمبر 1957 والتي كبدت العدو الفرنسي خَسائر في الأرواحِ والعتاد.