فن القصة من أشهر الفنون الأدبية وأكثرها استلهاما لخوالج النفس البشرية وعوالمها؛ وبالرغم من التطورات التي شهدتها باختلاف المدارس الأدبية التي تناولتها واختلاف المجتمعات التي تداولتها والثقافات التي أثرت فيها، أو حتى التسميات التي تعاقبت عليها؛ لكنها بقيت على أساسها المعتمد على السردية والوصفية.
وبغض الطرف كثيرون عن أهمية تناول موضوع القصة القصيرة كمادة للدراسة والتحليل النقدي، مقارنة بشريكتها المطولة الرواية، أو رفيق دربها الشعر، أو أبيها الحاضن المسرح. وبقيت القصة القصيرة محتجزة بين الفنون الأدبية منذ ظهورها كفن أدبي مستقل عن السرديات الأخرى منذ بدايات القرن الماضي، فلا ينالها بالدرس إلا المهتم، ولا بالكتابة إلا الملهَم.
لسنا هنا لنخوض في ماهية القصة القصيرة وتاريخها ولا في كيفية إنشائها، ولن أحتج بوجود مراجع عدة على ذلك لأنها بالفعل قليلة! وخصوصا منها العربية؛ لكننا سنتجاوز ذلك لاكتشاف الأسرار التي من ورائها يتمكن مؤلف القصة من جعلها على درجة من التماسك والرصانة والتأثير.
وعليه سنضع إطارين للموضوع: الأسرار الأسلوبية، والأسرار الإبداعية.
الأسرار الأسلوبية:
أهم ما يميز القصة القصيرة هو الإيجاز والتكثيف، بغض النظر عن عدد الكلمات التي جرى فيها العديد من التناقض والنقد، بين من يبدأها بخمسمائة ومن يبدأها بخمسة آلاف كلمة! لكن ما يوحد الحجم هو الأسلوب الحكائي للقصة، بحيث يستطيع الراوي (كاتب القصة وليس صاحبها، وإن جاز معه الدوْران) أن يشد اهتمام المتلقي لموضوع السرد فلا يحس بتقطع في الأحداث ولا بارتباك في كرونولوجيا القصة ولا بإهمال لشخصية واردة، فأي خلل في ترابط الزمكان والشخصيات والأحداث قد يضع المتلقي في مأزق الفهم المغلوط أو النفور من انعدام الضبط، ويعرض القصة للتفكك السلبي.
كحلّ مبدئي، فأفضل طريقة للضبط هي أن يكون الكاتب هو الراوي من الخلف، وليس بالضرورة هو الشخصية المتكلم البطل، بل هو الأعلم بكل التفاصيل والأكثر تداخلا مع الشخصية البطل، بحيث أي تدخل لأي شخصية أخرى لن يتجاوز الحوار الجانبي، مع الإشارة إلى أن أغلب الكتاب الكبار يفضلون هذا الحل، ومنهم من يتجاوزه لفتح حوار داخلي مع الذات، حتى لا يقحم شخصيات متباينة قد تتصارع معه في القوى وتبطل تماسك بنية قصته، والتي ستبدو أكثر عمقا وتقمصا، بينما لو كان الراوي صاحب رؤية من الخارج فإن قصته ستكون موضوعية جدا، وسرديتها خبرية كمن يحكي عن سبب قتل فلان لفلان ودخوله السجن، فالراوي لن يعرف عن الشخصية إلا ما جاء في الأخبار والإشاعات وستظهر سطحية سرده بتباين الروايات.
لذا، فهذا الحل يعد من أهم أسرار القاص الناجح الماهر.
وبينما نتحدث عن السرد، فمهما كانت قوة هذا الأخير لن يصل لدرجة التميز ما لم يتمتع السارد بالمهارة اللغوية، ورصيد معرفي كاف باللغة التي سيستعملها لنصه، حيث سيعرف بدقة متى يستعمل هذا التركيب أو ذاك، ومتى سيلجأ لهذه الصيغة اللفظية أو تلك، فأي خلط في الأسلوب اللغوي سيصيب المتلقي وإن اختلفت درجات ثقافته اللغوية بتشتت ذهني واضطراب في فهم سردية القاص. والأسوء هو حين يتوفر هذا الشرط لدى القاص، فيمارس رصيده ومهارته بشكل مفرط من باب استعراض عضلاته المعجمية بالخصوص، وينهك المتلقي الذي قد يضطر في بعض الأحيان للمطالبة بالشرح أو التكفل بتصفح المعاجم، وهنا قد يفقد عنصر التتالي الذي قد يشده لآخر القصة.
لذا فإن من أبرز أسرار القاص اعتماد أسلوب لغوي رصين ومعبر لكن باعتماد معجم بسيط متقن يضمن إيصال فكرته.
أما أهم الأسرار الأسلوبية التي تجعل من القصة ناجحة متماسكة فإنها الحبكة، والمقصود بتفصيل بسيط أن يكون الحدث محور القصة وليس الشخصية أو المكان أو الزمان، وهذا الحدث يفضل أن يكون قوي التأثير أو نادر المعالجة، مهما كان صغيرا، ولو سقوط حجر من عدم، فالقدرة على جعله حدثا مهما هو ما سيجعل من قصة القاص مؤثرة مثيرة، وليس بالضرورة أحداث بطولية أو أسطورية، خصوصا في القصة القصيرة الحديثة، والتي تتطلب تحويل أبسط الأحداث وأكثرها هامشية، لحدث مميز انطلاقا من قدرة القاص على استعمال الأساليب المناسبة التي تكمّل المعنى المطلوب وتحقق الهدف المرصود.
ولهذا فالقاص البارع لا تشعر معه بتقاطع البداية والوسط والنهاية، إنما يجعلها حدثا متكاملا مرتبطا بنفَس السارد وإقدام بطله في الحفاظ عليه متماسكا.
الأسرار الإبداعية:
في هذه النقطة بالذات، سندخل إطارا أوسع وأعمق، لأنه مرتبط بذات السارد وملكته الخاصة التي سيميزه لاحقا عن زملائه القصاصين، والذي قد يدخله باب الإعجاب بأسلوبه المتفرّد. بحيث يحس المتلقي أن السارد يجيد تحريك خيوط الأحداث بشكل قد يصل لديه للعبقرية ويولد عنصر الدهشة، بينما يقف هو في نقطة الضوء التي تسلَّط على الشخصية الرئيسة. فكل تعقيد للخيوط يوَلد تشويقا، وكل حل يهدي لغاية من القصة برمتها سبب السرد. وكلما تعمق المتلقي فيها زاد لديه حب الاستطلاع وتحمل ضغط زمن القصة القصير للوصول للنهاية الحاسمة، التي من المفترض أن تكون استثنائية.
وهنا نضع سطرا على الاستثنائية؛ حيث من أسرار القصة المبدعة أن تخلق من الحدث ميزة وتجعل من الحل النهائي استثناء غير متوقع، ولو كان متوقعا فإنه سيبدو مركبا قابلا للتأويل، موحيا بوجود امتداد في فكر المتلقي، كأن تقول في آخر كلمة من القصة: محال، لست أدري، ربما، يوما ما، ليتني.. أو استعمال أسلوب الاستفهام الاستنكاري، أو أمر... حركات كهذه تضفي طعما مختلفا عن القصة الآلية، وهنا يحكم ذوق السارد على طبق الأحداث.
شق آخر يظهر إبداع السارد وهو استعماله للرمزية والإيحائية في كتابة قصته، سواء بأن يستوحي أحداث واقعة او فنتازيا ويلبسها أحداث قصته في بعد آخر، فتولد للمتلقي انطباعا خاصا قد يصل لاعتقاده أنه المعني بالقصة بل وبطلها! ويأتي ذلك كإدخال حدث أسفر عن نتائج معينة جسم القصة بجعل البطل شاهدا عليها، أو تشبيه ما يحدث للبطل بما حدث لشخصية مميزة في زمن ما أو ثقافة ما مهما اختلفت، فيخاطب بقصته كل شرائح المجتمعات؛ كأن يصور السارد كيد إخوة لأخيهم الأصغر استلهاما من قصة سيدنا يوسف، أو إصباغ صفات لأبطال من أساطير اليونان على بطله في واقع الحال من باب الإفراط في تبجيل الشخصية أو تصعيد استثنائية الحدث. الرمزية عموما من مميزات الأدب الحديث، لذلك فقد يراها بعض المتلقين من باب المبالغة السردية، لكن هنا تكمن إبداعية السارد الأديب، والسر وراء تمكنه من نسج حبكة متماسكة ملهمة، والتي يحتاج معها لتشبع ثقافي ومعرفي، حتى إن واجه متلقيا حذقا فسيكون التواصل بينهما تفاعليا إعجابا، مثلما سيكون للمتلقي العادي بينهما مدهشا خلاقا.
ومن الأسرار أيضا التي يخفيها بعض المبدعين، او يتحفظون عن الخوض في تفاصيلها فهي مصدر شعلة الإلهام، باعتبارها من جهة مصدرا خصوصيا، ومن جهة أخرى لئلا ترتبط مسيرته الأدبية لدى قرائه بأهمية ذلك السر الذي لن يصبح ميزة له حيث سيهتم كل سارد باقتباس نفس الشعلة، فينقص ذلك من تميزه، كما وأن البعض الآخر قد يبدي استهزاء أو تنقيصا وقد يستعملها لمهاجمته بها في أي مناسبة. لذا فهذا السر يبقى في الغالب سرا! ولعل مكان الكتابة وزمانها، وظروف السارد ووضعيته، وحياته الشخصية ورفاق اهتمامه، والأهم تيار الوعي الذي أثر في سرديته وإدراكه للحياة، هي أمور قد لا يتمكن من مشاطرتها مع الآخر، مثلما قد لا يستطيع الآخر تقبلها أو التمكن منها. فتبقى سمة الخصوصية غالبة على هذا السر.