تبادل الثقافات، والعادات والتقاليد، والأفكار، بين الشعوب في دول العالم المختلفه وأخذ النافع منها والمتوافق معنا والعمل به، ونبذ السيء والمخالف منها وتجنبه ، هذه هي الصورة الوردية بين سطور الكتب والمؤلفات عن العولمة الثقافية ولكن الواقع شيء آخر لأن العولمة الثقافية التي حدثت وتحدث ما هي الا مسخ لثقافة الشعوب العربية والإسلامية ومحو لموروثهم وعاداتهم وتقاليدهم ومبادئهم من صلة الرحم ، الى اكرام الضيف الى احترام الكبير ، وبر الوالدين، والترابط الاسري الى حشمة المرأه وتكريمها عن كل ما يمس حيائها، وإلى جميع عناصر الثقافة العربية التي تكونت عبرالآف السنين فلكل ثقافة خصائص تميزها عن غيرها سواء باللغة اوباللهجات المحلية والامثال الشعبيه والفلكلورالشعبي والطعام وحتى العادات الخاصة بالافراح والاتراح وكل ما يعطي شعبا معينا هوية خاصة به هو ثقافة فجاءت العولمة الثقافية لتوحد العالم أجمع بصبغة واحدة .
ويعد مصطلح العولمة كمصطلح دقيق حديث النشأة وقد بدأ بالظهور بعد الحرب العالمية الثانية حيث انتصرت دول المحور بدعم الولايات المتحده الامريكيه فبدأت عندها الولايات المتحده بتصدير بضائعها ومنتجاتها وثقافتها أيضا الى جميع دول العالم وعلى جميع الأصعده الاقتصادية عبر الشركات المتعددة الجنسيات والاستثمارات الضخمه حول العالم والسياسية التي تنتشر فيها الاخبار والاحداث السياسية عبر وسائل الاعلام التي تديرها هي ، والعولمة الاتصالية التي جعلت من العالم قرية صغيرة وأخيرا العولمة الثقافية محور الحديث هنا وهي من اخطر أنواع العولمة حيث انها تغزو الفكر والثقافة والتاريخ تغزو العقل والمبادئ والقيم التي تمتاز بها كل ثقافة وكل أمة عن غيرها .
ولكن العولمة كفكرة هي اقدم بكثير من الحرب العالمية الثانية فتبادل الثقافات والتجارة الدولية العابرة للقارات ونقل السلوكيات والعادات بل حتى والكلمات بين الشعوب هو شيء حدث في قديم الزمان وأول من بدأ به هم العرب عبر تجارتهم حيث انهم نقلوا البضائع عبر البحار والقارات فمثلا أتوا بالحرير من شرق اسيا وبالبهارات من جنوبها وصدروا الى كل العالم العطور والبخور واللبان والاحجار الكريمه وبعض أنواع الخشب إضافة للثقافة ، نعم لقد صدر العرب جزءا كبيرا من موروثهم والذي ما زالت بعض الشعوب حول العالم متأثرة به وربما دون ان يعلموا وعلى سبيل المثال لا الحصر فلنتحدث عن فرنسا مثلا ، يتفاخر الفرنسيون بانحدارهم من شعب الغال، الذي كان يعيش في فرنسا منذ أكثر من ألفي سنة، وبكون لغتهم الفرنسية خليطًا من اللاتينية والغالية ، ولكن ما لا يدركه أكثرهم هو أن الكلمات ذات الأصل العربي أكثر في اللغة الفرنسية من الكلمات ذات الأصل الغالي ، وفقًا لكتاب ( أجدادنا العرب ... ما تدين به لغتنا لهم) والصادر عن مطبوعات دار «لاتيس» في عام 2017 ، والذي يحلل فيه جون بريفو البريفيسور في تاريخ اللغة الفرنسيه في جامعة سيرجي بنتواز 400 كلمة فرنسية ذات أصل عربي، ويسرد من خلاله تاريخ استعارة اللغة الفرنسية من العربية في مختلف الحقول اللفظية، ومن بينها كلمات دارجة ومعتادة يستخدمها الفرنسيون يوميًّا، ويعتزون بها كونها تمثل جزءًا من الثقافة الفرنسية .
ولكن العولمة الحديثه والتي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية والمرتبطة بالولايات المتحده الامريكية وبالثقافة الغربية بشكل خاص لا تشبه تلك العولمة القديمة التي بالفعل أغنت الشعوب فكريا وسلوكيا وجعلتهم يستفيدون من بعضهم البعض فكانوا يأخذون ما لا يخالف مبادئهم الاساسيه وقيمهم الثابته، بينما نجد العولمة الحديثه والتي سعت فيها الولايات المتحدة الى تصدير الثقافة الغربية على أنها الثقافة الأكثر عدلا وحرية والتي تحترم الانسان وحقوقه وتمنح كل انسان اختياراته في هذه الحياة دون قيود او ظوابط ، الثقافة التي ستجعل البشر اكثر حضارة وتطورا وستصنع منهم علماء ومفكرين ومبدعين ، انها الثقافه الأسمى والأكثر مواءمة لجميع الناس باختلاف اديانهم وعقائدهم واعراقهم ، الثقافة التي ستنصر المظلومين وتحرر المرأة وتحمي الطفل وتمنح الشباب الانطلاقة والسعادة ، وبالطبع هذا الهراء غير صحيح البته وما هو الا زيف وكذب عملت الولايات المتحدة على اقناع العالم اجمع به عبركافة الوسائل الممكنة فتارة تجد هذه التلميحات في كتب المستشرقين المنتشرة بين أيدينا وتارة نجدها في الأفلام والمسلسلات والبرامج وصولا اليوم الى وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات والمنتديات الالكترونية وقد أثرت هذه التلميحات المزروعة بخبث بين المشاهد والنظرات والكلمات اثرت على المجتمعات العربية أيما تأثير فتفككت العشيرة واستقل الأبناء عن الاباء ولم تعد للعائلة سلطتها ودفئها وأصبحت العادات والتقاليد تخلف ورجعية وأصبحت التعاليم الإسلامية خرافات واساطير وذهبت مع ادراج الرياح القيم والسلوكيات التي تجعل من العربي عربيا !
وقد تبدلت المسميات فأصبح الزواج المبني على تعارف العائلات باحترام ومحبه اصبح زواجا تقليديا ، وأصبحت الام التي تفرغ حياتها لتربية أبنائها ورعاية اسرتها أصبحت أماً جاهلة وغير قادرة على انتاج جيل مواكب للعصر، وتفشت بين شبابنا مشكلات وظواهر جديدة وغريبة دخيلة علينا كالمثلية الجنسية والاعلان عنها بل والتباهي بها والمطالبة باعطائهم حقوقا في ممارستها بشكل قانوني ومشروع !
والمطالبة بمساواة المرأة بالرجل بدلا من الدعوة الى إعطاء كل منهما حقوقه التي هي في اطار ما منحه إياه الله عز وجل من قدرات فالله من صفاته العدل وليس المساواة والعدل يتمثل بمنح كل شيئ ما يستحقه ويتوافق معه ويناسبه فليس من العدل أن أسقي شجرة الزيتون المعمرة كأساً من الماء مساواة لها بزهرة القرنفل الصغيرة المعلقة في اصيص على نافذة البيت فقط لانهما نباتين !
إن مخاطر الانسلاخ والخروج عن موروثنا وثقافتنا اكبر بكثير مما نتصور وتتعدى ما قد نفكر به اليوم ، لأننا سنصبح كالغراب الذي قلد الحمامة لا نحن تمسكنا بموروثنا ومبادئنا وثقافتنا العريقه الضاربة جذورها في غابر السنين ولا نحن استطعنا التفريق بين ما يصلح وما لا يصلح لنا من الثقافة الغربيه فنصبح نسخة مشوهة لشعب اخر وبهذا نمحو صفحات مشرقة كتبها اجدادنا بدمائهم وارواحهم ، بشعرهم ونثرهم ، بمعاركهم وفتوحاتهم ، بنوها وعملوا عليها حتى نباهي بها العالم لا حتى نخجل منها ونداريها فالثقافة والتاريخ العربي من اعرق واقدم واكثر الثقافات غنىً بالشعر والنثر والقصص والحكايا بالحروب والمعارك بالامثال الشعبية والاطعمة بالملابس بالسلوكيات بالترابط بالمحبة فوالله ليس من التحضر بشيء أن نستبدل صباح الخير ببونجور ولا أحبك بآي لوف يو !