تعتبر تجربة فيلم "عين شمس" الذي تعرضه لجنة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان تجربة غير مسبوقة في تاريخ السينما المصرية حيث أخرجه ابراهيم البطوط بدون ميزانية تقريبا، بل اعتمادا على المبادرات الفردية التطوعية من جانب فريق العاملين والممثلين، وصوره بكاميرا رقمية صغيرة. "عين شمس" فيلم من نوع آخر، ينتمي إلى ما يعرف بـ"سينما المؤلف.
هناك تعليق صوتي يأتينا من خارج الكادر، كما لو كان صوت مراقب محايد، لكنه مطلع على كل ما يحدث، على واقع الشخصيات، وعلى ما سيحدث لها أيضا. هذا الصوت- القدري، يجعلنا من البداية نثق فيه ونتلقى منه ما يريد أن يوصله إلينا.
إنه يحدثنا عن الدكتورة مريم: التي ذهبت إلى العراق عام 2003 قبل الغزو الأمريكي، لا لكي تساعد المرضى ولا لكي تشارك في أحد الدروع البشرية، بل لكي تبحث في موضوع اليورانيوم المستنفد الذي ثبت استخدامه في حرب عام 1991، وأدى فيما بعد إلى انتشار أمراض السرطان بنسبة كبيرة عند العراقيين.
ومن العراق إلى القاهرة.. ومن صائد السمك في البصرة إلى رمضان.. سائق التاكسي الذي يعمل أيضا سائقا خاصا عند سليم بك.. أحد رجال الطبقة الجديدة - القديمة في مصر.
صوت القدر الذي يأتينا من خارج الصورة ينذرنا بأن رمضان سرعان ما سيسمع خبرا يغير حياته تماما. ابنته الوحيدة شمس التي لا تتجاوز السابعة من عمرها، هي بالنسبة له كل العالم، ولكنها مصابة بسرطان الدم. والخبر يهز حياة رمضان ويغير مسارها، ولكن سليم بك يقف إلى جواره، يساعده، ويحاول أيضا أن يساعد قريبا له على استخراج جواز سفر والهجرة إلى ايطاليا، إلا أن سليم بك أيضا في مأزق، فيتعين عليه رد 80 مليون جنيه لأحد البنوك. وهو يصل في لحظة، إلى حالة من اليأس تكاد تدفعه إلى الانتحار، لكنه يهرب من يأسه إلى المخدرات.
حي عين شمس الذي تقطن فيه أسرة رمضان السائق هو "منتصف الدنيا" وقلب العالم، والتعليق الصوتي يقول لنا إن المنطقة أيضا "عائمة على بحر من الآثار، كما أن بداخلها يوجد بترول، وكانت في الماضي السحيق عاصمة للفراعنة".
ولكن كيف تبدو "عين شمس" اليوم: قمامة، وبيوت غير آدمية، وأكوام من القاذورات، وتدني في الخدمات، وأناس يعيشون على الكفاف لكنهم لم يفقدوا القدرة على الضحك واللهو والحلم بحياة أفضل.
هناك الكثير من النماذج التي يقدمها الفيلم في سياق الكشف التدريجي عن طبقاته وشرائحه ومنها شمس الصغيرة، التي تحلم برحلة إلى منطقة وسط القاهرة، كما قرأت عنها في كتاب بالإنجليزية، وتتخيل أنها لاتزال تتمتع بسحرها القديم الموصوف في الكتاب، وعندما يستجيب والدها ويصطحبها مع امها في الرحلة المنشودة سرعان ما تكتشف أن الصور الموجودة في خيالها أجمل كثيرا من الحقيقة.
الغزو المسلح في العراق أنتج أمراضا اجتماعية وصحية والكثير الكثير من المعاناة، لكن المقارنات التي يعقدها الفيلم تؤكد للمشاهد أن مصر لم تكن في حاجة إلى غزو مسلح لكي تلحق بها كل أمراض الفقر والتخلف والتدهور والأمراض المستعصية.
ينهي البطوط فيلمه بلقطة معبرة عن الوضع الراهن في مصر، عندما يجعل شرطيا يشير إلى رمضان وهو يقود سيارة التاكسي ويأمره بالتوقف. يتوقف التاكسي ويتوقف الفيلم، ويصبح مطلوبا منا أن نعيد ترتيب المشاهد والشخصيات حسب قراءتنا الخاصة للفيلم.
من الناحية السينمائية يعتمد الفيلم على التحرر في السرد والبناء، فالفيلم لا يقوم على "حبكة" محددة تدور من حولها "الأحداث"، وتتجسد الشخصيات، ثم يدور الصراع بينها ويتصاعد لكي تنفك "عقدة" الأحداث في النهاية، سواء في اتجاه الحل، أو التطهير، أو الهزيمة. لكننا أمام نسيج من نوع آخر مختلف، يبدأ بطبقة أو شريحة إنسانية رقيقة، سرعان ما تكشف لنا تدريجيا عن باقي الشرائح..