يتعامل الفيلم مع مُعتلجات النفس البشرية وتأثيراتها على السلوك والتحوّل الجذري العميق بمقدار مئة وثمانين درجة، وفي غالب الأحيان يُشكّل الماضي عنصر التحوّل الأساسي والمتسبّب فيه، فكما في «العودة» يُشكّل رجوع الأب الغائب (والغامض) بعد سنين طويلة، نقطة التحوّل من عالم البراءة إلى عالم الجريمة القصوى، أي قتل الأب، فإن ماضي إيلينا وفلاديمير يلعب دوراً حاسماً في تحويل علاقتهما إلى إطار جديد يبلغ أقصى حالات الجريمة، أي قتل زوج مريض وطريح الفراش للمحافظة على العون المالي الذي تُقدّمه إيلينا لابنها العاطل عن العمل والذي يعيش في ضاحية بعيدة من المدينة في ظل مولّدات الطاقة الضخمة النافثة لدخانها المسموم والتي نرى آثارها القاتلة على الزرع الميّت في الأرجاء.
تلك البطالة التي لا تولّد الفقر والحياة البائسة فحسب، بل تولّد الجريمة العنصرية لدى الجيل الجديد الذي يقدّمه زفينياتسييف لنا، فاشلاً دونما هدف أو رغبة في عمل أي شيء، ومستعداً للإغارة على من هو أكثر فقراً وفاقة، ليس لشيء إلاّ لتأكيد فوقية ما على أحد آخر أدنى في السلّم الاجتماعي.
يروي الفيلم الأيام الأخيرة لفلاديمير، وهو رجل أعمال ناجح وثري، لكن دون أن نعرف كيف كوّن ثراءه، ويعيش مع زوجته إيلينا التي تزوّجها منذ ما يربو عن عقد، وكانت تعمل ممرّضة اعتنت به في إحدى مرات دخوله المستشفى وتزوّجا عندما كانت تتمتّع بنظارة كبيرة، كما يبدو من صورها المعلّقة على الجدران في الغرفة التي تنام فيها لوحدها على سرير يُفتح من أريكة.
لفلاديمير وإيلينا ماض مكوّن من أبنائهما الذين وُلدوا من الزيجات الأخرى، ولها ولد اسمه سيرغي وله ابنة اسمها كاتارينا، سيرغي عاطل عن العمل ويواصل احتساء الجعة وبمطالبة أمه بالمال، وكاتارينا متمرّدة رفضت العلاقة مع والدها ولا تُعنى بأي شيء من حياته، وحين تُطالب إيلينا زوجها بمساعدة أخرى لابنها سيرغي وعائلته التي تكبُر كل يوم، يتشاحنان، لكن كالعادة ينتهي الخصام بينهما إلى السرير يمارسان الحب ويخرج فلاديمير إلى النادي الرياضي، ويُصاب بنوبة قلبية تُدخله المستشفى ينجو من آثارها لكنه بدأ يُدرك أن أيامه باتت معدودة فيطلب رؤية ابنته كاتارينا، ويُعيد اللقاء وأجواء المرض الآصرة بين الأب وابنته، فيقرر فلاديمير أن يُخلّف كلّ ثروته لكاتارينا ويُخبر إيلينا بذلك، مؤكداً لها أنها ستحصل على نفقة شهرية منتظمة، ويثير هذا الموقف الجديد لدى إيلينا كل المخاوف على مستقبلها ومستقبل عائلة ابنها، ولكونها ممرّضة سابقة تعرف تأثرات الأدوية السلبية على من يتناوله، تبادر إلى زيادة جرعة إحدى الأدوية ما يؤدي إلى وفاة فلاديمير. تزيل إيلينا من البيت كل أثر يُشير إلى رغبة فلاديمير الأخيرة لكتابة وصيّته التي فكّر بها وتُحرق كل المسوّدات التي باشر بكتابتها قُبيل النوبة القاتلة.
تؤول ثروة فلاديمير إلى إيلينا وكاتارينا مناصفة وتنقل الأم عائلة ابنها إلى الحي الجديد والراقي في المدينة على أمل أن تُعطي سيرغي وعائلته أفقاً جديداً في الحياة، لكن المخرج يعرض لنا علاقة سيرغي وولده المراهق مع المكان بشكل يوحي أن هؤلاء سينقلون السلوك الذي درجوا عليه في الماضي إلى المكان الجديد دون أن يترك المكان عليهم أي تأثير.
ويفعل ذلك من خلال حركة واحدة. حين نرى حفيد إيلينا يُبصق من الشرفة إلى الشارع، وهي نفس الحركة التي شاهدنا سيرغي في يفعلها في بداية الفيلم.
يعرض لنا آندريه زفينياتسيف عالمين متناقضين ومتباينين من المجتمع الروسي الحالي، عالم متهالك ومتهرئ تركه النظام السابق، وآخر أنيق ومُمَكنن بآخر التكنولوجيات، لكن دون حياة، ويخيّم عليه غربان تواصل نعيقها لمجرد انزواء الشخصيات إليها، إنه الهدوء المُصطنع لعالم خارجي يعُجّ بالضوضاء والحركة.
رؤية مأساوية بالتأكيد لعالم، مثل العالم الروسي، يعتلج بالكثير من المتناقضات والأخطار التي لن تتوقّف في حدود الدولة العملاقة، بل هي قادرة على التسلل إلى خارج تلك الحدود بعد أن انفلتت من عقال السلطة القمعية والضاغطة في السابق، ويبدو عالماً دون قيود تُهيمن عليه طبقة جديدة صاعدة تتحوّل بمرور الوقت إلى مافيا خطيرة.