نجح المخرج الإيراني أصغر فرهادي في فيلمه "عن إيلي". يمتاز هذا الفيلم بلغة سينمائية واعية وبليغة قادرة على جذب المتفرج منذ اللقطة الأولى. حيث نرى بصيصًا من الضوء يحاول الحضور في شاشةٍ مظلمة، نكتشف بعدها أننا كنا في نفق. تسير عدة سيارات، عدة فتيات جميلات يصرخن من نافذة السيارة، يمارسن الصراخ كلعبة مسلية. تتجه عائلة إيرانية إلى شمال إيران لقضاء عطلة الأسبوع يستقرون بفيلا على الشاطئ. هنا صوت البحر بأمواجه الصاخبة يقاسم الشخصيات أحاديثهم و مرحهم ثم قلقهم وحزنهم. ربما يكون بطل هذا الفيلم هو من يكشف الحقائق و يحوِّل الفرح لحزن و ألم. كل شي عن ايلي هو العنوان، لكن الفيلم لم يعرض شيئًا عن هذه الفتاة الجميلة و الغامضة. تظل هذه الشخصية محور اهتمامنا منذ اللقطة الأولى إلى نهاية الفيلم.
السينما هنا ليست خطابًا سياسيًا أو أخلاقيا و لا حكاية مسلية أو محزنه. الفيلم كما عبر عنه المخرج بحث في العلاقات الإنسانية بعيدًا عن المشاكل الثقافية و الاجتماعية. في الجزء الأول من الفيلم نرى الشخصيات تضحك، تلعب، تغني، ترقص، إنها شخصيات إنسانية مثلها مثل أية شخصيات في أي جزء من العالم. هي شخصيات تحب الحياة و تحلم بالحب و الفرح. إن المشاكل التي يواجهها الناس في إيران مماثلة لما يمكن أن يتعرضوا له في أي بلد آخر.
نحن هنا أمام عالمٍ إنساني، لكنه محاصر بظروف أقوى منه يمكننا أن نفسر هذا البحر الهائج الذي ابتلع الجميلة ايلي هي الظروف التي تعيشها إيران في ظل نظام سياسي غريب يحاول أن يظهر بمظهر الديمقراطية و هو بداخله روح بشعة كهنوتية. ايلي مجرد واحدة من ضحايا هذا النظام، رغم أجواء الفرح إلا أنها تظل قلقة و مضطربة تخفي بأعماقها حزنًا دفينًا و عميقا. استطاعت الكاميرا أن ترصد العديد من اللحظات بتصويرها الوجوه في حالات الفرح و الألم. من أجمل المشاهد عندما تركض ايلي على الشاطئ مع الطائرة الورقية. ظلت الكاميرا تركض لتمسك بوجهها، وجه جميل ملائكي كأنها طفلة صغيرة أو حورية فرَّت من جنة الفردوس. جاءت لتجعلنا نتعلق بها ثم اختفت لتثير مئات الأسئلة، هل غرقت أم عادت لبيتها نحاول أن نتمسك بالخيار الثاني كمتفرجين رغم علمنا أنه وهم.
يمكننا القول بأن المخرج كان موفقًا جدًا باختيار أحجام اللقطات، اللقطات البعيدة لعرض عملية البحث عن الطفل الغريق ثم البحث عن ايلي جعلتنا نشارك الشخصيات هذا البحث نتجول في الشاشة باهتمام لعلنا نعثر عن أثر للضحية. الشخصيات تتصارع مع الأمواج، تركض بكل اتجاه، تصرخ، تبكي، أحيانا تعجز عن الكلام و البكاء لكننا نحس بها، بل نصبح جزءًا من الفيلم، و لعل هذه النقطة هي قوة الفيلم و روعته.
نحن أمام فيلم ممتع بصريًا لا يحاول نسخ المنظر الطبيعي لكنه يحاول اظهار حقيقة هذا المكان و هذه الشخصيات. لا يسرف بالشرح و تقديم المعلومات دفعة واحدة. يدعنا نعيش اللحظة بحلاوتها و غموضها ثم يغرقنا في الألم بقسوته و مرارته. هو اسلوب ذكي و جذاب يمسك بنا فلا نستطيع الفكاك و التخلص من هذه الأجواء.
ايلي تظل رمزًا و سرًا غامضا و هذا اجراء مقصود لا يظهر المخرج كيف غرقت و لا يرى هذه الحادثة أي شخص. تمر اللحظات صعبة و قاسية علينا نحن كمتفرجين. نحن لسنا أمام قصة بوليسية، اختفاء ايلي بهذه الصورة ليس من أجل كشف مزيدًا من التفاصيل حول حياتها الخاصة ننتقل من الخاص للعام لنتعرف على حقيقة مجتمع يسوده الاضطراب بسبب قسوة القوانين والنظام السياسي. الفرد في هذا المجتمع مقهور مغلوب على أمره لذلك يحاول البحث عن السعادة و ربما يكذب، فكذبة زبيدة التي لم تخبر الآخرين بأن ايلي فتاة مخطوبة، زبيدة تحاول التقريب بين ايلي و أحمد الذي طلق زوجته الألمانية و جاء يبحث عن زوجة إيرانية. عندما يعلم خطيب ايلي بالقصة يضرب أحمد. هذا الأخير يكتشف أنها لم تكن تحبه، في الأخير يتعرف على جثتها و يتركها و يرفض إخطار أهلها بالحادثة. يجعلنا المخرج هنا بطرق عديدة غير مباشرة نعيش هذا الزمن الحاضر لهذا المجتمع. يلعب المكان دورًا تعبيريًا مدهشًا وخاصة البحر. لا توجد ديكورات ضخمة و لا ملابس و أزياء فخمة. ما يهم المخرج هو الوجوه في كل لحظة يحاول التعمق بإعجاب و خوف بتصويره للوجوه الإنسانية.