يقدم المخرج التركي تشاكَان إيرماك رائعته الجديدة "قوم جدي"، الذي تعرضه لجنة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان مترجما للعربية، بعد أن قدم رائعته السابقة "أبي وإبني". ويبدو أن إيرماك حضّر لهذا العمل جيدا، وبنى رؤيته الدرامية على قصة حقيقية من خلال سيرة جده السيد محمد يافاش الذي جعله (بنفس الاسم الحقيقي) الشخصية الرئيسية للفيلم وقام بدوره الممثل المخضرم تشيتين تيكندور الذي أدى الدور بإتقان شديد. يبدأ الفيلم بمشاهد التهجير الجماعي لسكان أتراك من إحدى البلدات داخل اليونان نحو الأراضي التركية تنفيذا لاتفاقية تبادل السكان من الجنسيتين بين تركيا واليونان، ثم ينتقل بعد ذلك لعرض مشاهد من حياة المهجرين الأتراك بعد أن استقروا في موطنهم الجديد دون ان يتخلصوا من الحنين لحياتهم الماضية. يبرز الفيلم بشكل خاص العلاقة بين الجد والحفيد. ينتهي الفيلم بحفيد بطل الفيلم الجد وهو يزور موطن جده و يتناول الطعام عند السيدة اليونانية الني حلت محل أهله في دارهم القديمة منفذا بذلك حلم جده الذي ظل يواصل إرسال الرسائل داخل زجاجة يرميها في البحر علها تصل لموطنه القديم.
يعود المخرج إيرماك بهذا العمل لتقديم هذه المأساة من خلال عيون الحفيد "أوزان" الذي قام بأداء دوره الصغير دوروكَان تشيليكايا إلا إن طريقة تناول الموضوع اختلفت باختلاف قضية العمل بالعلاقة مع فيلمه السابق، ولعل ما هو بارز في فيلم" قوم جدي" تلك القدرة على تفسير العلاقة ما بين الأجيال وعرض التعقيدات في علاقاتهم عرضًا صادقًا ومقنعًا ويخلو من النمطية والتقليد. إلا إن العمل يشرح هذا الجانب بشكل موازٍ وليس محوري، فالفكرة الرئيسة تقوم على مسألة الحنين والاشتياق للوطن. وعلاقة الجيلين البعيد بالقريب (الجد بالحفيد مع عدم التركيز على الأب) تعمل على نقل هذا الوجدان الشعوري بالفيلم بكل شفافية، فالحفيد يريد أن يفهم سبب تصرفات الجد بينما الجد يخفي السبب رغم عدم اجتهاده بذلك، وبين الشد والجذب تظهر الصورة تلقائيا وبانسيابية وإقناع للمشاهد. وهنا تظهر براعة المخرج بعرض النتيجة أمام المشاهد.
أضاف المخرج لمسات من الطرفة والكوميديا على مدار الفيلم الذي امتد لساعتين كاملتين. وهذه اللمسات لا تخرج عن روح الواقع، فهو مبكي ومضحك ذات الوقت.
خلفية القصة المحورية تتمثل بالمأساة الإنسانية التي وقعت عام 1923 فيما يسمى "اتفاعية التبادل السكاني" بين اليونان وتركيا، وهي مسألة شبيهة بما يحدث بين الهند وباكستان عند تقسيمهما عام 1947. بالدولة العثمانية كانت تبسط سيطرتها على كل من تركيا واليونان وبلغاريا، وكان رعاياها المسلمون واليونان والبلغار يعيشون كل حسب منطقته وبغض النظر عن ديانته. ولكن الاتفافية المذكورة نصت على تهجير المسلمين الذين يعيشون في اليونان إلى تركيا وتهجير المسيحيين الذين يعيشون في تركيا إلى اليونان.
يعتبر المخرج تشاكان إيرماك من أفضل مخرجي تركيا حالياً، ويتميز بقدرته على عرض المشاعر الصادقة والمؤثرة، والبعيدة عن "الميلودراما" المفتعلة.