الصورة الشائعة للمصور السينمائي والتي تبينه أثناء عمله ، تعرضه في حالة التحام كامل مع الكاميرا ، في وضع عناق شديد : وجهه ملتصق بها ، يداه تحيطان بها ، إحدى عينيه موغلة في رؤية متوحدة مع عينها الزجاجية ، عينه الأخرى مغمضة لتسمح للرؤية بالعبور إلى داخل القلب كي تنتج الصورة الأجمل والأكثر تأثيرا وتعبيرا أو الصورة الأكثر كشفا وعكسا لقوة الحادثة الحاصلة للتو في الواقع الحقيقي ، كأننا أمام حالة عشق وعناق بين العاشق والمعشوق ، حالة ذوبان أحدهما في الآخر وتفاعل يؤدي حتما إلى خلق مولود جديد يعبر عن جوهر الإبداع الإنساني ونستقبله بكل متعة وإعجاب.
لكن صورة العلاقة بين المصور والكاميرا ليست دائما بهذا النقاء ولا تكون نتيجتها دائما إنتاج صورة جميلة أو معبرة . وقد لا تسير هذه العلاقة وفق ما تشتهي سفن العاشقين وتحيد عن طريقها الطبيعي فتتعرض في أحيان كثيرة لعصف الريح الهوجاء في امتحان لا يرحم لتجربة العشق.
أقصى حالات العشق بين المصور والكاميرا تجسدها المخاطر التي يتعرض لها المصورون الإخباريون والتي تصل في أحيان كثيرة إلى موت المصور أثناء عمله إذ يتوغل في أقصى مواطن الخطر لاقتناص صورة / لقطة معبرة ومثيرة ، متجاهلا احتمالية موته الخاص.
وعلى العكس من بعض حالات العشق الإنساني في الحياة والتي تصل في بعض الأحيان إلى درجة من القوة بما يؤدي ليس فقط إلى ذوبان العاشقين ، أحدهما في الآخر ، بل و إلى فنائهما معا ، فإن العشق بين المصور والكاميرا إن أدى إلى الفناء فسيكون الفناء في معظم الحالات للمصور وحده ، فيما ستبقى الصورة التي احتوتها الكاميرا و أنجبتها ، نتيجة للحظة العشق هذه ، خالدة لا تفنى وكان المصور العاشق يقوم بفعل الاستشهاد مضحيا بنفسه في سبيل الصورة المعشوقة .
في ذاكرتي ثلاث حالات من حالات هذا العشق المميت . في تلك الحالات الثلاث قام المصور بتصوير موته الخاص ، مسجلا على شريط الفيلم ليس فقط وثيقة مرئية عن لحظة موته وظروفها وعن قسوة الحدث والعصر ، بل أيضا وشهادة عن قوة هذا العشق الغامض بين المصور والكاميرا.
حصلت الحالة الأولى أثناء الحرب العالمية الثانية . كان الجنود مندفعين في هجوم عنيف لاقتحام خطوط العدو القريبة . كانوا يركضون وهم يحنون ظهورهم في محاولة لتفادي طلقات الرصاص المرشوشة باتجاههم . كان المصور يركض معهم حاملا الكاميرا السينمائية ويصور . وحده المصور لم يكن حاني الظهر . وحده كان يركض منتصب القامة معانقا الخطر والكاميرا معا . كان مشهد المعركة واضحا وحقيقيا وحيا ، مرئيا من خلال اتحاد عين المصور وعين الكاميرا . ثم توقفت الحركة على الشاشة وبقيت الصورة الملتقطة بواسطة الكاميرا لوهلة قصيرة جدا من الزمن ثابتة كأنما تجمدت فجأة ، ثم بدأت الصورة ترتج وتتهاوى إلى الأسفل فاقدة شيئا فشيئا وضوحها . وأخيرا أظلمت الشاشة ومات المصور وإصبعه يضغط على زر تشغيل الكاميرا .
شاهدت هذه اللقطات ضمن نسيج فيلم تسجيلي ضخم عن وقائع الحرب العالمية الثانية قبل عقدين من الزمن وظلت وحدها في ذاكرتي من بين كل لقطات ومشاهد الفيلم الأخرى . وهكذا فإن تضحية المصور لم تذهب سدى وامتدت نتيجتها جسرا تسير فوقه ذاكرة السينما وتعطى مثالا نموذجيا عن دور المصور .
تبرهن الحالة الثانية عن قصدية واعية وإصرار على المضي ، من قبل المصور، مع عين الكاميرا إلى النهاية القصوى من الطريق المظلم . كان ذلك أيام الانقلاب العسكري في تشيلي . كانت كاميرا المصور السينمائي ترصد تقدم الدبابات في شوارع العاصمة ومطاردتها لفلول المتظاهرين . توقفت الكاميرا أمام منظر دبابة استقرت على ناصية أحد الشوارع . كانت الدبابة بعيدة بعض الشيء عن موقع المصور الواقف على الناصية المقابلة فامتدت يده إلى مفتاح " الزوم " فبدت صورة الدبابة اكثر قربا ووضوحا . صورت الكاميرا خروج أحد الجنود من فتحة الدبابة العليا ، صورته وهو يتطلع باتجاه المصور ، صورته وهو يسحب بندقيته الرشاشة ويصوبها نحو المصور بكل هدوء و هكذا كانت الصورة الأخيرة التي التقطتها عدسة الكاميرا قبل أن تظلم الشاشة تماما صورة دخان طلقة الرصاص وقد انطلقت من فوهة البندقية لتقتل المصور .
تم عرض هذه اللقطة الطويلة على نحو احتفالي في افتتاح مهرجان لايبزغ الدولي المخصص للسينما التسجيلية وذلك في إحدى دوراته في أواسط السبعينات وكان للمشهد وقع الصاعقة على السينمائيين التسجيليين القادمين من مختلف أرجاء العالم ولكن ذلك لم يمنعهم من التصفيق الحار .
منذ ذلك الحين ظل السؤال اللغز يلح على ذهني : ما الذي يجعل المصور يصل إلى حالة العشق هذه والتي قد تتسبب في فنائه ؟ أهو سحر الصورة الخفي العصي على الفهم أم هو الإيمان برسالتها المقدسة الرامية إما لتسجيل ولتوثيق و لتثبيت حقائق الواقع أو لإعادة إنتاجها؟ وهل هذه العلاقة هي لحظة تحد للموت المحتوم بإنتاج حياة جديدة تنبض عبر الصورة ؟