تعرض لجنة السينما في مؤسسة عبدالحميد شومان، وضمن برنامج مختارات من روائع السينما الصامتة الفيلم الصامت "المدرعة بوتومكين". ففي بداية هذا القرن في عام 1905 كانت الثورة الشعبية الوليدة الأولى التحضيرية للثورة البلشفية الناجحة عام 1917 على روسيا القيصرية. وهنا كان دور فيلم "المدرعة بوتومكين" لمخرجه الروسي العظيم سيرجي أيزنشتاين ليوثق هذا التحول التاريخي بفيلم سينمائي يدور حول تمرّد مجموعة من البحارة على الضباط والعسكريين.
وما بين الثورة وقمع الثورة وهذه العلاقة الطردية بينهما طرح المخرج أيزنشتاين في فيلمه الصامت مجموعة من الأحداث تتصاعد ضمن العلاقة الجدليّة بين الثورة والقمع... جعل الجوانب الدرامية في الفيلم تسير في خطين صاعدين متوازيين باتجاه النصر للثورة والحريّة.
وقد ارتأى أيزنشتاين أن لا يكون البطل الثوري فردا، كما هي العادة، وإنمّا الأفراد الأبطال في كامل الشعب البطل... لذلك فقد أبدع المخرج في طرح وتصوير المجاميع البشرية وحركتهم المتكاملة من يمين الكادر ويساره وأسفله وأعلاه، فيما حدا بالمشاهد ليرى تلك الشاشة تتحرك في كافة أبعادها، وقد عزّز حراك الثورة التي لا تهدأ.
ورغم اختلاف الأحداث وأبطالها في فصول الفيلم الخمسة، إلا أنها تتشابه في المؤثر (القمع) والهدف (الثورة) مما جعل من كل فرد ثائر بطلا، وقد أسهم ذلك في توصيل الفكرة الشاملة للثورة من خلال شخصيات هذه الفصول الخمسة على اختلاف موقع أحداثها... البحر أم البر.
وثمة مشهد عظيم في الفيلم وفي تاريخ السينما العالمية وهو مشهد الدرج الواسع الذي عليه يتعارك خط الثورة المتصاعد وخط القمع الصاعد، والذي من خلاله (أي المشهد) وعلى الرغم من غياب المؤثرات الصوتية، تظهر قدرة هذا المخرج العظيم من خلال العديد من الجوانب الفنية... أهمها:
- كسر الحاجز الزمني للحدث... حيث يطيل المخرج المشهد السينمائي دون الإخلال بالإحساس الزمني للمشاهد والحدث في آن.
- دراما لأحداث مختلفة تمّ تركيبها وتنسيقها (توليفها) بحيث تشابكت أحداثها مع بعضها البعض مما أسهم في البناء الدرامي لمجمل الأحداث ضمن إطار القمع والثورة ومن هذه الأحداث:- الأم التي تناجي وليدها أن يحيا بعد أن داسته أقدام العسكر.
- العربة وبداخلها طفل رضيع والتي تهوي بتسارع شديد من أعلى الدرج وبلا نهاية.
- العجوز التي فقئت عينها من خلف النظارة.
- المشهد العظيم للمجاميع البشرية الهاربة والساقطة على الدرج.
- هجوم مجموعة من المختبئين على طرف الدرج وأقدام وبنادق رجال الجيش تهبط الدرج وتحصد الأبرياء.
وهكذا وعلى ساحة ومساحة الدرج الواسع استطاع المخرج وضمن إطار القمع والثورة أن يجعلنا نعيش برعب وترقب.
ومن ضمن اللقطات العديدة التي يستدل المخرج بها على الثورة، فقد كان من أوائل من استخدم السيمياء في السينما، نرى في الفيلم تماثيل لثلاثة أسود أولهم نائم والآخر متأهب والثالث مهاجم، وبذلك استطاع المخرج أن ينقل مفهوم الثورة ومراحلها من خلال تماثيل صامتة جامدة.
وبهذا الفيلم كان أيزنشتاين أفضل من استخدم اللقطة الكبيرة كأساس في التعبير الدرامي للحدث كأن يركز على النصف العلوي أو السفلي لجسم الممثل أو التركيز على وجهه وتعابيره، أو حتى عضو من أعضاء جسده... فقد كان ذلك جديدا وشاذا في عصره.
وهناك في زمن السينما الصامتة استطاع أيزنشتاين أن يطرح الفكرة الشاملة للثورة من خلال انتفاضة المدرعة بوتومكين ودعم أهالي مدينة أوديسا لبحارتها المنتفضين... ليكن هذا الفيلم نموذجا يحتذى في مجال السينما والثورة على حد سواء.