إن عالم الترجمة عالم مألوف وغامض في الوقت نفسه. ففي عصر العولمة وما يتميز به من وفرة الموارد بفضل تطور التكنولوجيات التواصلية والمعلوماتية، أصبحنا نتعامل مع لغات متعددة، سواء كان بمحض إرادتنا أم لا، وبات لكل منا نافذة على الكوكب بإجماله، مما يتيح لنا غزارة غير محدودة من المعلومات حول الثقافات الأخرى والعلوم والفنون وسرود تجارب شخصية وغيرها من المحتوى. وفي ذلك السياق، كثر عدد الأفراد الذين تفاعلوا مع عمل الترجمة بطريقة أو بأخرى، إما مهنيًا أو تطوعيًا، ابتداءً من ترجمة جملة بسيطة لمساعدة الأقارب الذين لا يتقنون لغة ثانية، وانتهاءً بنقل نصوص أو مشاريع كاملة لزبون معين، مرورًا بترجمة نشرات بأكثر من لغة على وسائل الإعلام الاجتماعية.
وعند تناول موضوع الترجمة، يجب علينا أن نميز بين عدد من المهن المختلفة التي تقتضي التعامل مع أكثر من لغة ولكنها أحيانًا تتطلب مهارات في غاية التباين. وكذلك، يجدر بنا أن نفرّق قبل كل شيء بين مجالين الفرق بينهما واضح وجلي، وهما الترجمة الكتابية من جهة والترجمة الشفهية من جهة أخرى. ورغم أن بعض المهنيين يعملون في المجالين، لا يسعنا إلا أن نشدد على أنهما تعتمدان على قدرات وتقنيات تختلف اختلافًا قاطعًا. وفي حين تراكمت الكتب والمقالات والبحوث حول الترجمة الأدبية، فضلًا عن الترجمة الإعلامية مؤخرًا، إلا أنه لم يتم تكريس نفس القدر من الاهتمام للترجمة الشفهية، وإن كانت الحالة كذلك فقد تركزت الجهود حول الترجمة الفورية في سياق المؤتمرات. في هذه المقالة، أود التركيز على النوع الأخير، أي الترجمة الشفهية، وبالتحديد الترجمة المجتمعية والترجمة في الخدمات العامة.
ولكن قبل ذلك يجدر التذكير بأن تحت مظلة الترجمة الشفهية تندرج أنواع مختلفة وفقًا لترتيب الوضعية التواصلية والتقنية المستخدمة لنقل الرسالة بين لغة المصدر ولغة الهدف، وهي بالاختصار:
• الترجمة التتابعية: الترجمة التتابعية هي نوع من الترجمة الشفهية حيث يتحدث المترجم بعد أن يكمل المتحدث الأصلي جزءًا من كلامه. يقوم المترجم بتدوين الملاحظات أثناء حديث المتحدث، ثم يستخدم هذه الملاحظات لترجمة الخطاب بعد توقف المتحدث. يستخدم هذا النوع من الترجمة في سياقات متعددة، بما فيها الاجتماعات التجارية، والندوات والمقابلات الصحفية، والمحاضرات، والجلسات القضائية، الدورات التدريبية وورش العمل. من فوائدها أنها تتيح للمترجم فرصة لفهم المحتوى بشكل دقيق قبل أن يبدأ عملية الترجمة وكذلك يتأكد من استيعابه الكامل للفكرة قبل أن ينقلها إلى اللغة الثانية. بالمقابل، من سلبياتها أنها قد تستغرق وقتًا أطول وتعطل تدفق الحوار.
• الترجمة الفورية المتزامنة: أما في هذا النوع من الترجمة، يقوم المترجم بترجمة كلام المتحدث في الوقت نفسه الذي يتحدث فيه، باستخدام معدات خاصة مثل سماعات الأذن والميكروفونات. هذا النوع من الترجمة يستخدم غالبًا في المؤتمرات والندوات الكبرى، وفي المؤسسات التي تدور فيها المناقشات مستخدمًا لغات متعددة (كالبرلمان الأوروبي أو البلجيكي مثلا)، حيث يكون هناك حاجة لنقل المعلومات بشكل فوري إلى جمهور متعدد اللغات. ومن بين صعوبات الترجمة الفورية المتزامنة يمكننا الإشارة إلى أن المترجم معزولٌ وفي أغلبية الأحيان لا يوجد لديه فرصة للتواصل مع المتكلم حتى بصريًا، ناهيك عن المشاكل المتعلقة بالأجهزة و(عدم) شغالها أو توفيرها.
• الترجمة الحوارية: الترجمة الحوارية تُستخدم عادة في المواقف التي تتطلب تفاعلًا مباشرًا بين الأفراد، مثل المقابلات أو الاجتماعات الثنائية. يقوم المترجم بترجمة الحوار بشكل متبادل بين الطرفين، مما يتيح تواصلًا سلسًا وفهمًا مشتركًا. هذا النوع من الترجمة يتطلب مهارات تواصل عالية وقدرة على التعامل مع تفاصيل الحوار فضلًا عن إدارة أدوار الكلام بين مشاركي الحوار (شخصين أو أكثر)، أو في كلمات أخرى، على المترجم أن يعتني بأن المتحاورين لا يقاطعوا بعضهم البعض أو يتحدثوا قبل إتمام عملية الترجمة، والتدخل إن كانت الحاجة في ذلك.
• الترجمة الهمسية: تسمى أيضًا بالوشوشة، وهي أكثر انتشارًا على سبيل المثال في مجال الدبلوماسية حيث يرافق المترجم قائدًا أو ممثلًا سياسيًا أو أفراد عائلات ملكية ويترجم إلى جانبهم كل ما يحدث خلال لقاء ما. مثال آخر لسياق قد تستخدم فيه الترجمة الهمسية هو مراسم الزواج المدني حيث يكون أحد الزوجين لا يتقن اللغة الرسمية للدولة. وحري بنا الإشارة إلى أن المترجم\ة لا يوشوش حقًا بل فقط يتكلم بصوت منخفض (إذ أن الوشوشة لمدة طويلة ضارة للحبال الصوتية، بالإضافة إلى كونها سلوكًا مزعجًا للمستمع والمتكلم).
وهنا نطرح السؤال التالي: ما هي الترجمة المجتمعية وما التقنيات والسياقات التي تعتمدها؟
رغم أن جذور هذا النوع من الترجمة تعود إلى زمن طويل وتم ممارستها منذ عقود إن لم تكن قرون، إلا أن اعتبار الترجمة المجتمعية (community interpreting) كنوع متخصص من الترجمة ذات خصوصيات محددة لبثت حتى الثمانينيات من القرن الماضي. وكذلك بدأت تُسلَّط الضوء على هذا القطاع والبحث عن كيفية تكوين وتدريب مترجمين من أجل توفير خدمات ترجمة فعالة وناجعة، في محاولة لتحديد القواعد الأخلاقية والسلوكيات الملائمة فضلًا عن الكفاءات اللازمة لممارسة هذه المهنة.
ولتقريب الصورة أكثر حول الترجمة المجتمعية، تخيل أنك في بلد أجنبي وتحتاج إلى استشارة طبيب ولكنك لا تتقن لغة البلد، أو على الأقل ليس بدرجة كافية لكي تعبر عن حالتك بالتفصيل، وهذه التفاصيل مهمة جدًا بما أن لديك تاريخًا طبيًا يجب أخذه بعين الحسبان من أجل تشخيص حالتك ومعالجتك بشكل سليم وملائم. ومع أنه من البديهي ألا تتوفر دائمًا خدمة الترجمة في الكثير من المستشفيات، وأن الناس يلجؤون إلى طلب المساعدة من معارفهم أو أي شخص عادي يتقن اللغتين نسبيًا، فإن هذا مثال من بين ألف موقف يتدخل فيه المترجمون في السياق الاجتماعي. وقد تشمل تلك المواقف كلًا من الاستشارة النفسية وحوارات أولياء الأمور مع المدرسين ومواعيد الإدارات العامة بغرض الحصول على أوراق أو معونة مالية أو نصائح للبحث عن عمل أو تدريب، والعديد من الأمثلة الأخرى التي لن تُذكر في إطار هذه المقالة.
وبناءً على ذلك، يمكننا تعريفها كما يلي، اعتمادًا على ما كُتب عنها في "دليل دراسات الترجمة الالكتروني" لدار نشر" جون بينجامنز":
تهدف الترجمة المجتمعية لتمكين التواصل بين الأفراد والمجموعات في المجتمع ممن لا يتكلمون اللغة الرسمية أو السائدة التي تستعملها الحكومة المحلية عند تقديم الخدمات وموظفي أو خادمي تلك المؤسسات. وكذلك قد يشمل هذا النوع من الترجمة مجموعة من السياقات التي ستقرر التقنيات المناسبة للترجمة وقد يشمل ذلك ترجمة الحوارات القصيرة أو ترجمة "الربط" أو الترجمة التتابعية أو الترجمة الفورية (وعادة تكون همسية، أي كالوَشْوَشَة) أو حتى الترجمة المنظورة، على سبيل الذكر لا الحصر، وقد تُستخدم أكثر من إحدى هذه التقنيات خلال جلسة أو مهمة واحدة.
ومما لا شك فيه أنه أُنجزت تقدمات مهمة جدًا في المجال على مستوى البحث الأكاديمي وتنظيم المهنة والاعتراف بها خلال الخمسين سنة الأخيرة، ولكن الطريق لا يزال طويلًا وهناك تفاوت هائل حسب الدول ومناطق العالم وحتى بين مدن من نفس البلد.
ومن بين الرواد في هذا المجال، من ناحية التنظير أو التطبيق، يمكن الإشارة إلى السويد وأستراليا والى حد ما المملكة المتحدة وكندا في الغرب، مع تطوير البحث والعمل الضخم الذي أنجزه مجموعة من الباحثين ، إلى جانب إرادة سياسية من الدولة للاعتراف بهذه الخدمة اللسانية وتمويلها وتأسيسها لصالح مواطنيها. وإذا نقلنا إلى العالم العربي فيمكننا أن نستشهد بأعمال الدكتور مصطفى طيبي، الذي نشر أول كتاب باللغة العربية في هذا المجال عام ٢٠١١. كما أنه ألّف كتابًا خاصًا لاحقا يتطرق لتحديات خاصة حول الترجمة من وإلى اللغة العربية، ويتناول المؤلفين المساهمين قضايا مختلفة تتراوح من الترجمة المجتمعية للحجاج المعتمرين في السعودية إلى ترجمة العناصر الثقافية على غرار استخدام الألوان في المجاز، مرورًا بترجمة التابوهات وآثار وتبعات (عدم) ترجمتها. كما ينبغي الإشارة إلى ورقة بحثية نُشرت مؤخرًا (عام ٢٠٢١) للدكتور إبراهيم الحلالشة، حيث قام بمقارنة برامج عشرة جامعات عربية ومقرراتها، مبينًا العناصر المرتبطة بالترجمة المجتمعية، بالإضافة إلى عرض منهجية كاملة لتدريس هذه المادة مقترحًا مجموعة من الموارد والمراجع المفيدة.
انعكاسات خاصة متعلقة باللغة العربية
وفي هذا الصدد، غني عن القول إن الوضع اللساني للغة العربية يطرح إشكاليات خاصة، وعلى رأسها كيفية التعامل مع التنوع اللغوي واستخدام العامية(ات) والفصحى وفقًا للسياق، وحسب قدرات المتحاورين. وفي حين أن كل لغة لها مستويات مختلفة (ابتداءً من لغة الشارع أو المستوى المألوف إلى أسلوب الخطاب الرسمي مرورًا بالمستوى الشائع المتوسط)، ومن مهارات المترجم أن يستطيع استعمالها حسب الموقع ومن أجل عكس المستوى الأصلي من الكلام المنطوق، إلا أن حالة اللغة العربية تختلف عن حالة اللغات الأوروبية، على سبيل المثال، بمجرد امتداد المساحة الجغرافية التي يُتحدث فيها والتنوع الناجم عن ذلك، ناهيك عن المكانة الخاصة للغة الفصيحة التي تتعايش مع اللهجات المحكية.
ونظرًا للسياقات التي يعمل فيها المترجمون الاجتماعيون فإنه من الضروري أن يستطيعوا الإبحار بين النوعين وكل من المستويات المتوسطة بينهما، الأمر الذي يتطلب التعرض المستدام للمحكيات الأكثر تنوعًا وتراكم المصطلحات.
وفي حين أن هذا العمل المستمر والبحث عن إثراء الحصيلة اللغوية عنصرٌ مركزيٌ من حرفة المترجم، إلا أنه من البديهي أنهم يعجزون أن يصبحوا قواميس على رجلين، ولهذا السبب يجب أن يتعلموا مجموعة من الاستراتيجيات لكي يستطيعوا التعامل مع الصعوبات حسب الطلب ومن أجل نقل الرسالة أو الفكرة رغم العراقيل للفهم التي قد تتجسد تحت أشكال متعددة (مصطلحات غير معروفة أو محلية جدًا، لفظ معقد أو غير واضح، أو عدم إكمال الفكرة من طرف المخاطب، أو عدم احترام الأدوار المتوالية في الكلام، إلخ.).
الخلاصة
حاولت هذه المقالة لفت الانتباه إلى نوع من أنواع الترجمة قليل الشهرة وتبيين أهميته. ومما لا شك فيه أن الترجمة المجتمعية ستبقى عنصرًا جوهريًا يستحق كل اهتمامنا خلال القرن الواحد والعشرين. ففي واقع الأمر، نعيش في عالم متداخل يتميز بتدفقات الهجرة الضخمة ولن يتغير ذلك بين ليلة وضحاها، وهذا يتطبق على العالم العربي أو أوروبا وغيرها من أرجاء العالم. في هذا الصدد، ستلعب قدرتنا في إنشاء مؤسسات وتطوير مهارات المطلوبة من أجل ضمان تواصل صافٍ وفعالٍ بين أناس ذوي أصول متعددة دورًا أساسيًا في إيجاد انسجام بين مجتمعاتنا والحفاظ على تلاصقها لتجنب العقبات والإشكاليات، التي قد تكون بسيطة - كوجود سوء تفاهم بين شخصين - أو شديدة الخطورة - كإصدار حكم خاطئ في المحكمة، أو عدم الحصول على الحقوق الأساسية، أو رفض اللجوء، أو حتى صراعات بين فئات من المجتمع بسبب الخوف أو عدم التفاهم أو العنصرية، وحتى قد تتحول هذه المشاكل إلى خلافات بين الدول أو القارات.
ولذلك، نتمنى أن يزداد الاهتمام وعدد البحوث في هذا المجال وكذلك المبادرات لخلق وعي أوسع حول هذه المسألة.
مصادر خارجية:
لمعرفة المزيد في هذا المجال، يمكنكم مراجعة الموارد التالية:
- الصفحة العامة على ويكيبيديا
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9%D9%8A%D8%A9
- قاموس الفصحى واللهجات العربية:
https://www.livingarabic.com/