وأنت تمضي قُدمًا، مستمتعًا في طريقك نحو إنهاء قراءة صفحات رواية "أبناء القلعة" الغزيرة بكلماتها التي تلج بسلاسة ذهن القارئ، تأخذك الدهشة، المقرونة بالانبهار، من قدرة كاتبها الروائي الراحل زياد القاسم على تقديم سرد متقن ينبض بالواقعية، ليجسد بوضوح الحياة الاجتماعية وتحولاتها في مدينة عمّان، وخاصة في حي القلعة، وبكل ما تحمله من تناقضات وتباينات. يتداخل هذا السرد الاجتماعي بذكاء مع أحداث تاريخية بارزة خلال المدة الزمنية الممتدة من الحرب العالمية الثانية إلى نكسة حزيران عام 1967. وفي هذا الإطار الزمني، تمكن زياد القاسم من ربط تطور المجتمع بالتغيرات التاريخية باستخدام شخصيات حقيقية، وإن كانت متخيلة، فهي ليست مجرد رموز تاريخية، بل هم أناس حقيقيون يتأثرون بالزمن وبالتاريخ ويُشكلون هذا التاريخ عبر أفعالهم ومواقفهم، ما منح الرواية طابعاً واقعياً مميزاً. وهذا يتيح للقارئ أن يتماهى مع النص، فيشعر بأنه يعيش تلك الفترات الزمنية منخرطاً في تجارب شخصيات الرواية وصراعاتها الداخلية. وفي هذا السياق، يذكر الكاتب في روايته أبناء القلعة: "في الكتابة يقترب الكاتب من الإحساس بالخلود، فهو يحس بأن الطبيعة والتاريخ والمجتمع تجلت في كلماته وكأن كل حرف فيها ينبض الماضي والحاضر والمستقبل. الكتابة توحي للكاتب بأن كلماته مرآة يرى الآخرون فيها أنفسهم، بآلامهم وآمالهم وأحلامهم. الكتابة تحقق للكاتب ذاته الإنسانية وهو ينتقل من خلالها إلى ذات القراء، فيتواصل الشعور بالانتماء الاجتماعي في أجمل ما وهبته الطبيعة للإنسان: الكلمات" ص 328.
في مقدمة رائعة لأحداث الرواية، يسرد الكاتب قصة القلعة، فيقول: "لقد توافدت على القلعة أمم متعددة، وتناوبت عليها حضارات غنية، تاركة خلفها آثاراً متنوعة من الأعمدة والأضرحة والمعابد والساحات. فقد امتزجت فيها فنون الروم والبيزنطيين والإسلام، محاطة بسور كبير مكون من قطع حجرية ضخمة، تعرض بعضها للتآكل على مر السنين، بينما سقطت أجزاء أخرى إلى السفح..." (ص 13). تتجلى في هذه الكلمات روح القلعة وتاريخها العريق؛ إذ تعكس الآثار المتبقية تنوع الثقافات التي مرت بها، فهي ليست مجرد موقع جغرافي، بل هي شهادة حية على التفاعلات الإنسانية والاندماج الثقافي في القلعة عبر العصور.
يروي القاسم تفاصيل الهجرات التي أثرت في تكوين البلاد مع استعراض لحياة شخصيات من ثقافات مختلقة وطبقات اجتماعية متباينة، جمعهم توالي الهجرات ليقيموا في حي القلعة. ومن هذه الهجرات، هجرة الشركس، اذ تبدأ الرواية بقصة عائلة شمس الدين التي تضم شمس الدين وابنته فوزية التي تُبتر ساقها نتيجة حادث سير مأساوي تفقد فيه أختها وزوجها الفلسطيني، تصبح فيه فوزية، بعد وفاة أبيها حزناً وكمداً، مسؤولة عن أخيها الأصغر فخري وأولاد أختها -نايف وفارس- الذين انتقلوا من حيفا للعيش معها بعد نكبة فلسطين عام 1948. كما يذكر هجرة السوريين بعد الانتداب الفرنسي مثل عائلة أبو عبده، وهجرة الفلسطينيين بعد النكبة ذاكراً في ذلك شخصيات فلسطينية متعددة. ويشير الراوي إلى بعض العائلات الفلسطينية التي استقرت في عمان قبل النكبة، مستعرضاً أسباب استقرارها سواء كانت شخصية أو اقتصادية، مثل عائلة خليل، صاحب مصنع المشروب المنعش، وأنور علي، الفلاح المليونير، وعواد النمر، صاحب شركات النقل. كما قدّم الراوي شخصيات عربية استقرت أو عملت في حي القلعة، مثل خالد الملا العراقي، المحاسب المسالم ومن ثم ابنه مالك الانتهازي، وأنطوان اللبناني المسؤول في شركات عواد، إلى جانب شخصيات محلية أردنية مثل الأستاذ منصور مدرس اللغة العربية، وأبو وداد المثقف الذي يعمل في الصحافة وأصدر جريدة اليقظة، وحرّان البدوي سائق الشاحنة الذي تحول إلى مرابٍ.
ولا يفوتنا القول إنه رغم تعدد شخصيات الرواية التي تتجاوز الأربعين، سواء كانت رئيسة أو فرعية، فإن القارئ لا يشعر بأي حيرة أو خلط بينها؛ إذ جرى تقديمها بطريقة انسيابية تتماشى مع تسلسل زمني مدروس ومسوغات تاريخية أو أدبية استدعت ظهور كل شخصية في وقتها المناسب، حالها في ذلك حال الشخصيات التي نمر بها خلال سنين حياتنا ومراحلها المختلفة ولا ننساها أو نخلط بينها.
ونستشعر عمق التحليل النفسي لشخصيات رواية "أبناء القلعة"؛ إذ يسرد الكاتب صراعاتها الداخلية التي تنبع من أفكارها ومشاعرها الخاصة ورؤيتها الأخلاقية للحياة وتوجهاتها الثقافية، وفي هذا يذكر إحدى الصراعات الأخلاقية لإحدى شخصياتها ومحاولتها تبرير تصرفها السلبي: " كان بحاجة لأن يبدأ، والبداية دائما صعبة، البداية دائما مشبوهة. دائمًا حرام. ولكنها حرام مشروع، إنها تصبح غير مشروعة إذا استمر الإنسان فيها، تصبح أكثر من حرام" ص 124. هذه الصراعات والمخاوف تتشابك مع الأحداث الكبرى التي مرت بها المنطقة خلال تلك الفترات، مثل الصراعات الناجمة عن الفقدان، الهوية، الطموح، الطمع، الإحباط، والانهيار وبالإضافة إلى النفوذ والشغف والانتماء وغيرها من الصراعات والتطلعات.
قد يرى البعض أن هناك نوعاً من المبالغة في تصوير آفات المجتمع وفي ردود أفعال الشخصيات تجاه تحديات الحياة وصراعاتهم الداخلية، إذ تظهر العديد من شخصيات الرواية، نساءً ورجالاً، على نحو صادم. فعلي سبيل المثال، تبرز السمات السلبية للشخصيات النسائية بطريقة قد يكون مبالغاً فيها، فهي تظهر في صور كثيرة تكون فيها انتهازية أو ضعيفة الشخصية أو غير قادرة على التحكم في زمام عواطفها أو مضطرة لتأمين تأمين قوت يومها بطرق غير مشروعة سواء كانت أخلاقية أو مهنية. كما يتسم كثير من الرجال الأثرياء في الرواية بسمات الطمع والأنانية والجشع؛ إذ يسعون نحو تحقيق مصالحهم الشخصية وأهوائهم الخاصة دون اكتراث بمصالح أو مشاعر الآخرين، وقد يصل الأمر في بعض المواضع إلى إلحاق الأذى بهم، بل أن بعضهم يسلك طرقاً غير مشروعة في المنافسة التجارية. الأمر الذي يثير التساؤلات حول مدى توازن التمثيل الواقعي في هذه القصص الإنسانية. ومن جهة أخرى، يُظهر التركيز على الجوانب السلبية للمجتمع براعة الكاتب في استكشاف أعماق النفس البشرية وتعقيداتها في مواجهة تحديات الحياة على أنواعها المختلفة، مما يعمق تفاعل القارئ مع معاناة الشخصيات ويجعل النص أشبه بمرآة تعكس التوترات والصراعات في عالم مليء بالتحديات.
جرى تقسيم الفصول في الرواية على أساس زمني مرتبط بأحداث تاريخية على المستوى المحلي والعربي، فالفصل الأول يبدأ من الحرب العالمية الثانية مرورا بنكبة فلسطين عام 1948، وصولاً إلى قرار تعريب قيادة الجيش العربي وإعفاء القائد الإنجليزي "كلوب باشا" من منصبه وكافة الضباط الإنجليز. والفصل الثاني يغطي فترة قرار الوحدة القومية بين مصر وسوريا وانهيارها، لينتهي الفصل ببناء سقف لسيل عمان، ذاك السيل الذي تبدأ فيه الرواية بقوله: ("حد السيل" تعبير قديم استخدمه أهل المدينة للإشارة إلى وصول منسوب المياه إلى الحد الطبيعي للمجرى) ص13. وفي الفصل الثالث يستفيض القاسم في ذكر تأثر الثقافة والكتابة في الجرائد والمجلات الثقافية بالأحداث السياسية الدائرة في المنطقة العربية، مع تركيزه على الأحزاب السياسية الموجودة في تلك الفترة في الأردن وخاصة حزب البعث الذي ينتمي إليه أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية، فارس الشاب المثقف والكاتب، لينتهي هذا الفصل بصدور البلاغات والقرارات العسكرية من القطر العربي السوري عام 1966. وينتهي الفصل الرابع من الرواية بوقوع نكسة حزيران عام 1967.
ولا يغيب عن هذا العمل الأدبي الواقعي الجانب الرمزي بصوره المتعددة؛ إذ يتجلى دور القلعة كمكان يحمل دلالة رمزية عميقة؛ فهي ليست مجرد موطن للشخصيات فحسب، بل تشكل أيضاً جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المدينة وتاريخ الوطن بشكل عام، وهي تجسد مركزًا للتحولات العميقة في الهوية الثقافية والاجتماعية للأردن. أما شجرة السنديان التي نبتت في حي القلعة وكبرت لتصبح ملتقى للأصدقاء الذين يتفيأون بظلالها، فهي بدورها رمز آخر للثبات والانتماء، وحكايتها تحمل أبعادًا رمزية تدعو القارئ إلى استكشافها بعناية ومتعة. في حين تتضمن الرواية مواقف متعددة تحمل رمزيات ذات دلالات متباينة، يفسرها أو يفهمها كل قارئ وفقًا لمنظوره الفكري وتجربته الحياتية. وفي هذا السياق، يطرح الكاتب تساؤلات عميقة على لسان شخصية رئيسة من شخصيات الرواية، فارس، حين يتساءل: "لماذا تقدم الأهداف إلى الناس بشكل مباشر ومجرد...؟ لماذا تستخدم الاصطلاحات الجامدة للتعبير عن الآراء والأفكار؟ لماذا يصور المجتمع المستهدف في كلمات جافة تستعصي على الفهم. لماذا لا يتم رسم المجتمع المنشود في شكل قصة وحكاية؟ ليست الرمزية المطلوبة رمزية مصلح النرجسية، التي يضيع فيها القارئ وهو يبحث عن مخرج في متاهة رسمها مجنون. الرمزية في الهدف وليست في الكلمات." ص 365
وفي الختام، تجسد رواية "أبناء القلعة"، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1990، براعة الراوي الأردني الراحل زياد القاسم، الملقب "راوي عمّان"، في بناء رواية واقعية بلغة انسيابيه رشيقة تتناغم فيه الشخصيات مع المكان والزمن؛ فالشخصيات في حي القلعة لا تعيش بمعزل عن الزمن، بل هي جزء من تيار تاريخي أوسع يسهم في رسم مصائرها، بينما تترك فيه بصماتها على التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والديموغرافية للمجتمع. هذا الانسجام بين السرد الاجتماعي والسرد التاريخي يمنح الرواية بعدا واقعيا وثراءً أدبياً يمزج بين الإبداع والمتعة والفائدة الفكرية والمعرفية.