تشكّل السيرة الرّوائيّة "نشيج الدودوك" للشّاعر والرّوائي الأردني جلال برجس قَلَقا كقلق الشّعراء، فهي موزّعة في مُجملها بين ثلاثيّة (السّفر والقلق والموت). لقد شكّلت المَطارات محطّات فكرية وارتحالاتٍ داخل سؤال الفعل الإبداعي المكتوب، وهي ارتحالات ألجأ المؤلّف إليها قلقه المستمرّ وحركته التي تتملّص من استحقاقات الموت، كالفقد والسّكون والغياب والاكتئاب!
في القول المنسوب إلى جلال الدين الرومي يقولُ النّاي: "انظر إلى أنين الناي كيف يبث آلام الحنين. يقول: مذ قُطعت من الغاب وأنا أحنّ إلى أصلي" وهو ذاته ما يبدو في حال جلال برجس، المقطوع من غاب الكِتابة، فلا يهدأ قلقه إلا بردّه إليها، وفي ابتعاده عنها يصيرُ نفخة نايٍ أسيانة أو نشيجاً جوّانيّاً كنشيج الدّودوك، والدّودوك آلة موسيقيّة أرمينيّة قديمة ذات شعبيّة عالميّة. يقول أحد أهم عازفي الدّودوك وهو جيفان كاسبريان: "لكي يكون لدينا تصور بسيط عن الدودوك يجب أن نسمعه ولو لمرة واحدة على الأقل، وإذا كنتم تمتلكون رغبة بأن تتكلموا عن موسيقى الدودوك بأنها أغنية الجبال أو محاورة الأشجار أو بكاء المسنين أو سعادة الأطفال أو قتال الأبطال أو مآدب الأعراس، استمعوا واسمعوا وعندها ستفهمون ماهية وطبيعة ووجودية الدودوك".
لقد شدّ برجس خيمته في فضاء هذه المرويّة الذّاتية إلى ثلاثة أوتادٍ تُقابل الثلاثية المذكورة (السفر والقلق والموت) وهي ثلاث رواياتٍ صحبته كلّ واحدة منها في رحلةٍ من رحلاته؛ فرواية "الغريب" لألبير كامي تصحبه في رحلتهما إلى "الجزائر" ورواية "موسم الهجرة إلى الشّمال" في رحلتهما إلى بريطانيا ثم أشعار رسول حمزاتوف في رحلة إلى أرمينيا.
ومن خلال هذه الرحلات\الروايات\القصائد، يُطلّ برجس على نفسه وعلى ما كان منه مُتشبثًا بخشبة الذَاكرة وسط أمواج القلق والحُزن الوجوديّ، خشبة الذَاكرة التي لا تصل به إلى بر، لكنّها في الوقت نفسه تحميه من الغرق.
ويبدو لي إنه ليس دقيقا أن ننسب "نشيج الدودوك" إلى "أدب الرحلات"، إنّما هي سيرة روائيّة استخدمت التخييل في تأويل نفسِها وليس في السّرد وبذلك حافظت على دقة الأحداث وواقعيّتها كما عاشها صاحبها، وما كانت الكتُب التي اختارها للقراءة في رحلاته الثلاث إلا مُحاولات مُستميتة للإبقاء على المسافة بينه وبين الكِتابة مُشتعلة بالأفكار والرّؤى باعتبار الكِتابة هي متنفّس "الصخب الجوّاني" الذي يُبقي على "النّشيج" مستمرّاً وموصولاً حتّى تحوّله الكِتابة إلى شخوصٍ وعذابات وأحلام، مردُها في النّهاية السّكون التام، يقول في "نشيج الدّودوك":
"محطّتان بينهما يحدث كل شيء: الحبّ، الكراهية، البهجة، الحزن، اللذة، الجفاف الشّبع، الجوع، الأمل، الإحباط، الجشع، الكرم، النجاح والفشل، الربح والخسارة والموت. محطّتان يمضي ما بينهما ولا يتبقى إلّا تلك الصور المطبوعة على جدران الذَاكرة، تماماً كمحتفلين أوسعوا الدنيا غناءً ورقصاً، وفي آخر الليل ناموا كأنهم ليسوا من قاموا بكل ذلك الضجيج."
لقد اختار برجس لسيرته ذلك البناء الفنّي الذي يبدأ بالكِتابة عن الرّواية كفن وكيف دخل هذا العالم ثم الرّواية كأداة حفر في العالم وصولا إلى الذات ثم الرّواية كأداة تعرّي ومكاشفة وتطهّر!
هذه السيرة الرّوائية الهائلة هي في مكمن من مكامنها "ميتا رواية" حيثُ الكشف عن أسرار التلقّي والكتابة الروائيّة، وقد بدأها مُشيرَاً إلى دور حكايات جدّته التي كانت تحكيها لا لترضي حاجتهم للحكي، بل لأنها تريد أن تحكي، تماماً كما يريد الروائي أن يكتب، جدّته، صاحبة "الواقعيّة السحريّة" كما يصفها، جدّته التي صدَقت فصدّقها متمثّلاً قول أحمد بخيت:
تحكى لنا الجدات ما تحكى لنا
نصف الحكاية أن تصدق جدتك!
و العمر قصتك القصيرةُ
أنت من تختار دوركَ حين تكتب قصتك
ومن ثمّ طار بجناحين من الموهبة والوعي من قريته الصغير "حنينا" إلى فضاء الشهرة والترحال، لكن دون أن يسكن بداخله "نشيج الدّودوك".