تقتضي طبيعة الحياة المتغيرة المرور بتحديات يراها الكثيرون تهديداً لوجودهم أو خطراً على مصالحهم الشخصية، وهم يختلفون في كيفية استجابتهم لهذه التحديات؛ فمنهم من يملك القدرة على موازنة دفة الحياة وتحقيق أهدافه، ومنهم من يفتقر إلى الحنكة أو الخبرة فيخرج مهزوماً من صراع الحياة. في هذا الإطار، تبرز رواية "جمعة القفاري- يوميات نكرة" للروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز كعمل أدبي يقدم قراءة عميقة في النفس البشرية بأسلوب سردي جاذب. وهذه الرواية، التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1990 بحجم متوسط يتألف من 218 صفحة، تعرض الصراعات الداخلية لشخصياته وطرق مواجهتها لتحديات الحياة وتحولاتها في مدينة عمّان، وتتباين تلك الأساليب بين الانتهازية والانهزامية وفقاً لطبيعة شخصياتهم وتجاربهم الحياتية ودرجة تمسكهم بقيمهم الراسخة، بالإضافة إلى ذلك، تؤدي الظروف المكانية والزمانية والأحداث البارزة المحيطة دوراً هاماً في تشكيل ردود أفعالهم.
ويركّز الرزاز في روايته، على شخصية جمعة القفاري، المواطن البسيط البري والمنتمي إلى المكان والإنسان والملتزم بالقيم العربية النبيلة في مجتمع يتأرجح بين الحفاظ عليها والانفصال عنها. يُعرّفنا جمعة بنفسه قائلاً: "اسمي جمعة القفاري. ومع أن اسمي الأول يوحي بزمان، واسم عائلتي يوحي بمكان، إلّا أن هذه الحوارات التي سجلتها في مذكراتي تحمل دلالات أكثر أهمية من الدلالات التي يحملها اسمي" (ص12). في هذا المقطع، يعرّف جمعة نفسه من خلال اسمه المرتبط بالزمان والمكان، لكنه يوضح أن الأسماء لا تعكس جوهر الشخص، مؤكداً أن مذكراته تحمل دلالات أعمق تعكس هويته كتجربة غنية بالأفكار والمشاعر في سعيه لفهم ذاته ومحيطه.
تحمل هذه المذكرات عنوان "يوميات نكرة"؛ إذ يعيد جمعة تكرار عبارة "نعم، أنا نكرة"، ليعبر عن شعوره المستمر بالاغتراب والضياع، وهو يعترف قائلاً: "المهم إنني عاجز عن التكيف والتأقلم لأسباب عصية على الفهم، إنني لا أنسجم مع ذاتي، فكيف لي أن أنسجم مع المحيط؟" (ص 7). هذا الاعتراف، الذي يمزج بين الحيرة والتساؤل، ينم عن شخصية واعية تدرك تماما مشكلتها، ما يثير في القارئ شعوراً متبايناً بين التعاطف واللوم. وهذا ما يحفزه على استكشاف الأسباب الحقيقية وراء عجز جمعة عن التكيف النفسي؛ فهل يعود ذلك إلى سمات شخصيته وتركيبته النفسية؟ أم أن مدينته، عمّان، التي نشأ فيها وما مرت به خلال سنين حياته من تحولات اجتماعية وتناقضات حضارية وثقافية، قد أسهمت في تشكيل هذا العجز؟ أم أن هذا العجز هو نتيجة تداخل هذين العاملين معاً؟
وتُظهر يوميات جمعة أنه، رغم اتساع ثقافته وسمو أخلاقه ووراثته لعشر دونمات من الأرض، يصاب بالخذلان في سعيه المستمر للاندماج في المجتمع؛ فهو لا يكاد يستقر في أي وظيفة يحصل عليها، سواء كانت في تدقيق الحسابات أو كتابة وتحرير المقالات أو غيرها من الوظائف. ويعتمد في تدبير شؤونه المعيشية على أخته عائشة، التي تعمل من المنزل في الترجمة وتعتني بأولادها السبعة، وذلك بعد وفاة والدته. أما ميراثه، فقد شارف على النفاد. كما أنه يدخل في علاقات مربكة أو خجولة مع الآخرين، خاصة مع النساء، حتى أنه أنهى زواجه الأول بسبب تفاصيل أعطاها حجماً أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، وفي مفارقة، يتعرض للاحتيال والخديعة في زواجه الثاني، بسبب إهماله تفاصيل كان يظنها غير ذات أهمية.
وفي محاولة من جمعة للتصالح مع نفسه مع الحياة، يقرر أن يكتب رواية بعنوان "مغامرات نعمان في شوارع عمان"، وهو بالكاد يعرف شوارعها. وفي هذه الرواية، تكون فيها شخصية "نعمان" على خلاف نقيض من جمعة ويجعلها تقوم بالأفعال نيابة عنه في محاولة لطرد شبح العجز عنه. ومع ذلك، يكتفي بسرد أحداثها لابن عمه فاضل ولا يكتبها فعلياً، ما يثير التساؤل حول إمكانية تواجد مثل هذه الشخصية على أرض الواقع. يمتلك جمعة القدر الكافي من المعرفة والثقافة والقدرة المادية للعيش بمستوى يمكن أنه القول إنه مريح، كما يحظى باهتمام عائلته، ومع ذلك يفشل في مواقف قد لا تشكل عائقاً أمام من هم أقل منه معرفة واستقراراً، مما يؤدي إلى توجيه أصابع الاتهام إليه، بكونه هو المسؤول الأول والأخير عن معاناته. لكن، الرواية هي رغبة من الروائي في تسليط الضوء على مآلات التغيرات النوعية المتسارعة في مدينة عمّان وما مر بها من أحداث تاريخية سياسية أو اقتصادية، نجم عنها تناقضات لم يكن جمعة ليواكبها وهو على هذا النوع من الطابع النقي البريء، ويقول جمعة: "نعم، أنا جمعة القفاري، أسند خدي بباطن كفي وأفكر في كتابة رواية بعنوان: "مغامرات النعمان في عمّان". ولكن أي مغامرات يمكن أن تجترح في عمّان المحافِظة العصريّة في آن معاً؟" (ص 5).
من خلال قراءة يوميات جمعة القفاري، يمكن الاستدلال على العوامل الذاتية والخارجية التي أثرت سلباً على شخصيته وقادته إلى نهايته الحزينة. وفي ذلك، استخدم مؤنس الرزاز أسلوب تعدد الأصوات السردية بمهارة في روايته، ما سمح بفهم أعمق للأحداث وترسيخ أكبر للأفكار الرئيسية وإثراء النص بتنوع الأساليب اللغوية. وجمع الرزاز بين السارد الذاتي والسارد العليم، بالإضافة إلى شخصيات سردية أخرى في الرواية، مثل عائشة، أخت جمعة، وابن عمه فاضل القفاري. كان للصوت الذاتي الحضور الأقوى في الرواية، فجمعة ينقل بصوته الشخصي تجربته ومعاناته في العديد من الفصول، مما يتيح للقارئ الوصول المباشر إلى أفكاره ونفسيته، وفهم الحيرة والارتباك الداخلي الذي يعاني منه. كما نلاحظ من زاوية أخرى مدى دقة ملاحظته وإحاطته الواسعة بما يدور حوله من أحداث وتغيرات في مدينة عمّان. يقول جمعة في هذا السياق: "البلد صغير، وجبل اللويبدة وجبل عمان وجبل الحسين أرقى الجبال، ثم انبثقت عبدون والصويفية وقبلهما الشميساني بغتة.. فانتقل الجيل الجديد، ابن طفرة السبعينات، إلى هذه المناطق الباذخة. وظل الشيوخ والعجائز يلازمون بيوتهم القديمة في اللويبدة وجبل عمان القديم وجبل الحسين... وبقيت أنا معهم." (ص 8). هذا المقطع يثير الإعجاب أو الاستغراب، حسب قناعة القارئ تجاه هذه التحولات الطبقية، ويعكس تشبث جمعة بماضيه الثابت على خلاف أقرانه، مما يعمق شعوره بالاغتراب عن مجتمعه المتطور. في مثال آخر، يذكر جمعة الصدمة النفسية العميقة التي تعرض لها وهو فتى، إثر حدث سياسي غيّر مجرى حياته؛ فقد توفي والده، الذي كان بعيدا في اهتماماته عن السياسة، إثر انفجار في مبنى رئاسة الوزراء بينما كان يسير مصادفة في الشارع بالقرب من المبنى. يقول في ذلك: "لا أذكر أنني بُلت في سروالي، إلا بعد أن انفجر مبنى رئاسة الوزراء" (ص 160)، واستمر ذلك لعدة أعوام بعد حادثة الانفجار. وكانت تلك الصدمة الناجمة عن أحداث خارجة عن نطاق دائرته الخاصة، سبباً في زيادة حرص والدته وإحاطتها به بمزيد من الرعاية والحماية، حيث لم تدعه يلعب مع الأولاد أو يخرج معهم للتنزه. فبات يقضي وقت فراغه في قراءة الروايات العالمية، مما زاد من شعوره بالاغتراب وتقوقعه على نفسه. وفي مثال آخر، يبرز دور السارد العليم: "ثمة ما لا تعرفون عن جمعة، لقد كان مزدحما بالمعضلات مثلما تزدحم شوارع وسط البلد أيام الخميس بالمارة والسيارات، ومقفراً من الصداقات مثل شوارع الأحياء الراقية أيام الجمعة" (ص20). يشبه السارد اضطراب جمعة الداخلي بازدحام شوارع وسط البلد أيام الخميس، وعزلته بفراغ شوارع الأحياء الراقية أيام الجمعة، مما يعكس اغترابه عن مجتمعه. وفي الوقت نفسه، تلقي هذه التشبيهات ظلالاً على الفروقات الطبقية الواضحة بين أحياء عمّان، ما يعكس التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين سكان المدينة.
وتُظهر الرواية نموذجاً إنسانياً مغايراً لنموذج جمعة في تأقلمه مع الحياة، فها هو فاضل القفاري ابن عم جمعة الذي يلقبه بـ "كثير الغلبة"، ينجح في التكيف مع المجتمع المدني بكل ما يحمله من تناقضات، على عكس جمعة الذي يعجز عن ذلك. يقول فاضل: "وكشفت له عن سر خطير حين قلت إن سر نجاحي ومفتاحه هو النفاق على الخفيف، واسماع المسؤول ما يحب أن يسمع" (ص 179)، تعكس هذه المقولة رؤية فاضل البراغماتية أو العملية التي تتسم بالمرونة والتكيف مع الواقع الاجتماعي المعقد، في حين ينظر إليها جمعة كأفعال انتهازية؛ فهو يتمسك بمنهج مثالي قائم على الصدق والوضوح. وفي جانب آخر، نجد أخته عائشة، رغم تعدد مسؤولياتها بين العمل مترجمة ورعاية أولادها السبعة واهتمامها بجمعة حسب وصية والدتها، تمكنت من التعايش رغم إدراكها لكل التناقضات التي تحيطها وإحساسها بالاستلاب.
وفي الختام، قدّمت رواية "جمعة القفاري - يوميات نكرة" للروائي الأردني مؤنس الرزاز تجربة إبداعية وتصويراً عميقاً لحياة فرد يعاني من التهميش ويواجه فشلاً مستمراً في محاولاته للتكيف مع واقعه. وكشفت الرواية عن العوامل التي ساهمت في عجزه التكيفي، مثل تركيبته النفسية وظروف البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة به على مدار فترة زمنية، وذلك منذ أن تفتق وعيه وصولاً إلى مصيره النهائي. في الوقت نفسه، تعرض الرواية نماذج لشخصيات أخرى نجحت في التكيف مع تناقضات مدينة عمّان المعاصرة أو تعايشت معها، مما يسلط الضوء على الطرق المختلفة التي يتعامل بها الأفراد مع تحديات الحياة في عالم سريع التغير.
المراجع:
الحواري، رائد. "البراءة والمجتمع في رواية -جمعة لقفاري- مؤنس الرزاز"، موقع الحوار المتمدن، 2/10/2022
الرزاز، مؤنس. "جمعة القفاري- يوميات نكرة"، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990.
النوباني، شفيق. "عمّان في الرواية العربية في الأردن"، عمّان، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، 2013.