وأنتَ تُقلِّبُ صفحات رواية مؤنس الرّزاز المُعنونة بـ (جمعة القفاري) وما حملته من عنوانٍ فرعيّ ألا وهو (يوميات نكرة) تجتذبُ إلى ذلك العنوان الفرعيّ.. هل للنكرة يوميات؟ ولماذا منذ العنوان يعترفُ بطلها بأنّه نكرة؟ ذلك جمعة القفاري الذي أشعرَ القارئَ بأنَّه أضعف إنسانٍ على وجه الأرض، وأنّه الشخص الذي ضحّى بنفسه وبمشاعره وبكلّ ما لديه، لكن هل هذه التضحية كانت لإثارة الشفقة عليه؟ أم أنّه اقتنعَ بفكرةِ أنّه الشخص الضعيف والمسلوب حقّه دائمًا في هذا الكون؟
أسئلةٌ كثيرةٌ تدورُ في ذهن قارئ رواية (جمعة القفاري)، هل حقًّا لا يوجد أيّ شيءٍ يُخرجُ جمعة ممّا فيه؟ هل حقًّا جمعة كان ضعيفًا؟ أم أنَّ فكرةَ التضحية والعيش في جوٍّ مشبعٍ بالدّموع والحزن هي التي خيّمت على جمعة فلم يستطع الخروج من هذه الدائرة؟
اختارَ الكاتب اسمًا مركبًا لبطل روايته؛ جمعة القفاري: (جمعة) كلمة تدلُّ على زمانٍ، (القفاري) كلمة تدلُّ على مكان، فلا بُدَّ أنَّ هناك مغزًى دارَ في ذهنه لاختيارِ هذا الاسم المُركَّب. فالمُتعمِّق في الرواية يجدُ أنَّها زَخرت بالكثير من المشاهد التي قسَّمَها الكاتب (مؤنس الرزّاز)؛ ذلك الروائي الفذّ الذي قدَّمَ أعماله بطريقةٍ لا مثيلَ لها، حيثُ إنَّنا لم نستطعِ الابتعاد عنه عند تحليل الرواية، فمؤنس حقًّا عانى في حياته من كثيرٍ من الأمور التي جعلته يتأثَّرُ منها نفسيًّا وجسديًّا.
فمنذُ أنْ أدركَ جمعة القفاري الحياة، وبدأَ يتفتَّحُ عليها وما فيها من مشاغل ومصاعب، وهو يشعرُ بذلك الضّعف الذي نما معه كما ينمو أيّ عضوٍ من أعضاء جسمه، فكلَّما كبر زادَ ضعفه وكبرت هشاشته في تدبير الأمور في شتّى مجالات الحياة، على الرّغم من أنَّه ورثَ عن أبيه الكثير من الدونمات فكانَ جمعة ثريًّا إلّا أنَّه عادَ إلى نقطة الصفر ذاتها، تلك النقطة التي ما يلبثُ أنْ يبتعدَ عنها حتّى يعودَ إلى أدراجه خاليَ الوفاض، مصفّر اليدين، وكأنّه في دائرةٍ مُغلقة.
عاشَ جمعة القفاري منذ صغره في أكنافِ أخته، فمضى حياته بعيدًا عن حِضنِ والدته، ربَّما هذا الأمر الذي أضعفَ جمعة في حياته، ربّما هذا الأمر الذي جعلَه هشًّا رقيقًا لا يقوى على أخذِ حقّه بيده؛ لأنَّ العائلةَ كلّ شيءٍ بالنّسبةِ لأيّ إنسانٍ في هذه الحياة.
سَرَدَ الروائي في روايته مجموعةً من النزاعات الدّاخليّة والنّفسيّة التي قد يُعاني منها الإنسان في ظلّ الظروف السّياسيّة والاجتماعيّة التي يعيشها في المُجتمع، حيثُ ذكر بعض القضايا الاجتماعية التي تجعل المرء يكشفُ عن أنيابه في سبيل الحصول على المال، منها موضوع البطالة، وهنا يُراودنا سؤال: لماذا لم يبحث جمعة عن عملٍ يجدي منه نفعًا في حياته؟ فهو استسلمَ لواقعه المرير؛ حيثُ ذكر ذلك بأسلوبٍ قصصيّ ساخر.
حتّى أنَّه في أمر الزواج لم يفلح جمعة، والأمر المُثير للدهشة أكثر هو أنَّه لم ييأسْ من ذلك، فبَقِيَ يُحاولُ ويُحاولُ آملًا في إيجادِ مَن يفهمْه، لكنَّه كان يُنفِّرُ الجميع منه، حتّى أنَّه قرَّرَ أنْ يستقرَّ في بيتٍ وحدَه بعيدًا عن أخته – صاحبة العمل – وبعيدًا عن ذكريات الماضي التي ترافقه كظلّه، لكنّه ما إنْ يخرج إلى العالم متأملًا حريةً طالما حلمَ بها، حتّى تعيده الوحدة إلى عتبةِ بيته القديم، يعودُ مُثقل الخُطى كالذي يبحثُ في رُكامِ صمتِهِ عن بقايا دفءٍ أو كلمةٍ تواسيه؛ ليجدَ أنَّ الحنينَ قد غَلَّفَ المكان، وأنَّ المسافةَ بين الهروبِ والعودةِ لم تكنْ سِوى دورانٍ في فلكٍ ذاته.
على الرّغمِ من ذلك، إلّا أنَّه كان ضعيفًا في بيت أخته، حيثُ قال: "كنتُ أشعرُ بضآلتي أمامَ عائشة، وبأنَّها هي رجلُ البيت، وإنّني أعتمدُ عليها كُليًّا في كلّ تفاصيل حياتي، بدلًا من أنْ تعتمدَ هي عليّ"
كان القفاري يحاولُ إقناع نفسه بأنَّه سيتغيَّرُ من أعماقِ ذاته، إلّا أنّه يعودُ إلى الحضيضِ في كلّ محاولةٍ يقومُ بها، فكانَ يعيشُ في حالةٍ من البحثِ المُستمرّ عن معنى وجوده في هذا العالم، ويسألُ نفسه: كيفَ أصبحُ قويًّا مثل (الغلباوي- ابن عمّه)؟ متّى سأقومُ بأفعالٍ تُظهرُ قوتي وهيمنتي في هذا العالم؟ نستذكرُ في هذا موقف إنقاذ أخته عائشة عندما اختنقت في الحمام، حيثُ حاوَلَ خلع باب الحمام إلّا أنَّ ضعفه خيَّمَ عليه ولم يستطع ذلك، على عكس (كثير الغلبة) الذي بدفعةٍ واحدةٍ خلع الباب بأكمله.
القفاري حاوَلَ كتابةَ روايةٍ يستجمعُ فيها كلّ محاولاته في البحث عن ذاتِهِ التي فقدها منذ صغره، إلّا أنّنا نجده يعودُ إلى نقطة الصفر(لم يُكمِلْ الرواية التي لم يبدأ بكتابتِها في الأصل). أيُّ شعورٍ كئيبٍ مُحطِّمٍ يهيمنُ على جمعة جرّاء ذلك؟ (فقد تخلّى عنه الجميع)، ألم يشعرْ جمعة بالغيرةِ من أقرانه أو حتّى من ابن عمّه؟ هل كانت محاولاته مجرد وهم؟ أم هو أسير عقدةٍ من عمق ذاته، غير قادر على تجاوزها أو فكّها؟
تمتازُ الروايةُ بلغةٍ غنّيّةٍ بالتأملات الفلسفية، نقلَ فيها الرزّاز من خلال شخصيّة (جمعة) مأساة الإنسان الذي يُطاردُ أحلامَ الحريّة والعدالة في واقعٍ يزدادُ قسوةً إلّا أنَّ كلَ محاولاته لم تكن سوى دوران في دوّامةٍ محاصرةٍ من الفسادِ والتَّيْه، وكأنَّ القدرَ حَكَمَ عليه بأنْ يبقى عالقًا بين الماضي والحاضر، يحاولُ الهروب لكن دون جدوى.