للرواية دور هام في التعبير عن معاناة المجتمع بمختلف فئاته، بما في ذلك الفئات المهمشة؛ إذ تُبرز صراعاتهم الفردية في مواجهة ما يفرضه الواقع من تحديات ضمن إطار مكاني وزمني معين. وتستخدم الرواية في هذا الإطار أساليب أدبية متنوعة تتجاوز السرد المباشر للحقائق، لتنفذ بعمق إلى أعماق النفس البشرية، مستكشفة تناقضاتها وتعقيداتها الداخلية. ومن بين هذه الأساليب، يأتي أسلوب السخرية كأداة فعالة في تقديم الواقع بصورة أكثر تعقيداً وتفككاً دون أن تكون مجرد وسيلة للتخفيف من قساوة الواقع وحدته، بل هي أداة نقدية للواقع تبرز أبعاده الاجتماعية والثقافية والسياسية من خلال سرد قصص شخصيات تتعرض للخذلان والإحباطات في سعيها لتحقيق وجودها وأهدافها في المجتمع الذي تنتمي إليه، ولذلك، يلجأ البعض منها، هروباً من الواقع وقيوده، إلى عالم الأحلام والخيال لتحقيق ما تصبو إليه. وفي هذا السياق، تدور أحداث رواية، "حارس المدينة الضائعة" للروائي والشاعر إبراهيم نصر الله، التي صدرت بنسختها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عام 1998 بحجم متوسط يتألف من 362 صفحة.
تبدأ الرواية بجملة مثيرة للاهتمام "فَـزِعاً هبَّ من فراشِه"، فهي مليئة بالتوتر والخوف، ثم يتبعها مشهد غريب عقب الخروج من المنزل "أغلق الباب وراءه، انحدر باتجاه الشارع العام مرتجفا، رفع بصره نحو السماء، فوجئ بغيمة كبيرة لا تنتمي للصيف... ترامى الشارع هادئاً، بلا بشر ولا عربات، وفاجأه العدد الهائل من الأعلام التي ترفرف فوق أعمدة الكهرباء وشرفات الدُّور وعلى أبواب المحلات التجارية، كانت كثيرة..: بحيث لو أن الغيمة هبطت بأكملها، فإن قطرة واحدة من مائها لن تصل إليّ!" (ص7). يجذب هذا الوصف انتباه القارئ ويحفزه على متابعة القراءة بحثاً عن تفسير لما حدث في شوارع مدينة عمّان. وفي رحلة البحث هذه، تراوده العديد من التساؤلات حول مدى واقعية أحداث الرواية التي تبدأ بلحظة استيقاظ مفاجئة ومفزعة، مما قد يوحي له أن الرواية تحمل طابعاً خيالياً. في الوقت ذاته، يلمس مدى واقعية الأحداث في عرض سعيد لذكريات سنوات حياته التسع والأربعون على الرغم مما تحمله من غرابة وتفكك، وفي هذا ما يزيد من حيرة القارئ في محاولته لربط أحداث الرواية بالواقع أو الخيال والأحلام، وفي أحيان أخرى، لا يكون قادراً على تحديد أين يبدأ الواقع وأين ينتهي الحلم. يسترجع سعيد هذه الذكريات أثناء سيره على الأقدام في شوارع عمّان، من بيته في وادي الرمم إلى مكان عمله في شارع الصحافة، وقد خلت من جميع سكانها، إذ اختفوا جميعا فجأة وبقي هو وحيداً في المدينة.
يصل القارئ إلى لحظة الحقيقة في الفصل الأخير من الرواية، حيث يدرك أن كل ما مر به "سعيد" كان مجرد حلم من أحلامه المتعددة، وقد ظهر فيه حارساً لمدينة عمّان يحميها من النار ويحافظ على مقتنياتها، حتى يعود سكانها الذين اختفوا في ظروف غامضة. وفي ذلك، يقول سعيد في مقابلة يتخيلها مع وكالة الأنباء العالمية، بصفته حارساً لمدينة عمّان مثل باقي حراس مدن العالم التي تشهد مثل ظاهرة الاختفاء هذه: "كنت أفكر بالعبء الـمُلقى على أكتاف أمثالي من حراس العواصم والـمدن الكبرى كالقاهرة ودمشق والرباط وباريس ولندن ومدريد وروما وبرلين ونيودلهي وبكين.. أكثر مما أفكر في نفسي" (ص 159).
يجد سعيد تفسيراً لظاهرة عمّان الغامضة، منبعها اهتمامه بعالم السينما والخيال، فهو كثيراً ما يكرر مقولته "الدنيا سينما"؛ إذ يعزو ظاهرة الاختفاء إلى غزو كائنات فضائية لمدينة عمّان واختطاف سكانها. وهذه الظاهرة الغامضة وببقائه هو وحيداً في العاصمة، يجدها سعيد فرصة ثمينة لإثبات وجوده وأن يصبح قيّماً على المدينة، إذ يقول: "دائماً كان يشكو- لنفسه بالطبع- أنه لم يُمنَح فرصة لإثبات وجوده، أو امتحان قدراته؛ أما الآن، فإن أي فرصة تخيّلها ليست سوى لعب أولاد..: إذا ما قورنت بهذه الفرصة. مدينة بأكملها بين يديه، وعليه أن يحافظ عليها حتى عودة أهلها" (ص129).
إن دور الحارس الذي اتخذه سعيد لنفسه في الحُلم هو امتداد لدوره في الواقع؛ إذ يعمل مدققا للغة العربية في صحيفة رسمية، وفي عمله هذا، الذي أكسبه مزيداً من الدقة وسعة الثقافة بسبب تعامله مع مقالات ذات مواضيع متنوعة، كان سعيد يلتزم بأعلى درجات الدقة، في إشارة إلى مثاليته وإحساسه بالمسؤولية تجاه مصلحة الوطن، إذ يقول "إذا أخطأ المدقّق فمن يُصوّب أخطاءه" (ص64). ويتجاوز سعيد في دوره مدققاً لغوياً إلى تدقيق مضامين المقالات الصحفية في مجالاتها المختلفة، ويكون له تصرف لغوي فيما يراه يخالف سياسات الحكومة. ومن ناحية أخرى، يمكن لهذا القول أن يعكس إحساسه بالخوف من فقدانه لوظيفته، إذ خاض تجارب تمثيل صامتة، لم يكتب لها الاستمرار، آخرها دورة اليتيم في مسلسل تلفزيوني، وهو دور القتيل الذي يشعر سعيد إزاءه بالحرج ولا يحب أن يذكره أحد بهذا الدور الذي قام به منذ سنوات بعيدة.
وفي حين يتخذ الكاتب إبراهيم نصر الله في روايته هذه أسلوباً سردياً غرائبياً يتداخل فيه الواقع بالأحلام على نحو ساخر، نجد تداخلاً أيضاً في مستويات السرد ما بين المستوين المباشر وغير المباشر؛ فالمستوى المباشر يكون على لسان السارد الغائب في سرده لظاهرة عمّان الغامضة في الزمن الحاضر، والمستوى غير المباشر يكون على لسان شخصيته المحورية "سعيد" وهو يسترجع ذكرياته من الزمن الماضي. وقد يحل أحد المستويين محل الآخر، ما يزيد من حيرة القاري في التمييز بين المستويين (الشخصيتين الساردتين)، وفي هذا ما يشير إلى حالة التيه التي يعاني منها "سعيد" وإحباطاته في بحثه المستمر عن المعنى وعن دور في الحياة يحقق له الإحساس بالجدوى. ويستمر الكاتب في عرض التداخلات والتناقضات التي تميز روايته، إذ نجد جانباً منطقياً في شخصية "سعيد"، فرغم جنوحه إلى عالم الأحلام في تحقيق ما يعجز عنه في الواقع، تمكن من إيجاد حكمة خاصة به، وهي "دائماً هنالك أكثر من سبب" (ص41)، فهو ينجح في إيجاد عدة أسباب لتبرير تصرفات الآخرين، بما في ذلك تصرفات الحكومة وقراراتها.
وفي هذا السياق، تُظهر الرواية الدور الأساسي للتنشئة الأسرية في تشكيل علاقة الفرد بذاته والمجتمع والدولة؛ فقد نشأ "سعيد" في أسرة فقيرة ومحافظة ومتشبثة بتقاليد المجتمع الذي ينتمي إليه، كما أنها تسعى جاهدة لتجنب كل ما قد يثير التساؤلات أو المشاكل. فعلى سبيل المثال، عندما وصلت إلى والد سعيد فاتورة مياه بمبلغ كبير يفوق قدرة العائلة على تحملها في ذلك الوقت، دفع المبلغ بالكامل دون اعتراض، مبرراً ذلك بعبارته المعتادة: "بدنا نعيش" وتكررت هذه العبارة في أكثر من موضع في الرواية، لتصبح رمزاً للموقف المستمر الذي تتبناه العائلة وغيرها من العائلات في مواجهة تحديات الحياة وسعيهم للحفاظ على استقرار الأسرة بأي ثمن. وفي محاولات سعيد المستمرة للبحث عن عروس، كان يختار بعين والدته ورأيها، حتى وإن لم تكن معه. كانت والدته تريدها أجمل الجميلات، قادرة على تدبير شؤون المنزل وبكفاءة اقتصادية، ولا تريدها من ساكني المناطق البعيدة. وفي إطار هذه المحددات، يستمر "سعيد" في رحلة البحث هذه، ويلجأ في البداية إلى عالم السينما في تحديده لمواصفات جمال الفتيات، ولا يجد من تمتلك مثل هذه المواصفات على أرض الواقع، فيبدأ بتتبع من يراها جميلة جداً في شوارع عمّان بغرض الزواج، دون أن يغيب عنه رأي والدته، فيذهب في مرة منها إلى مدينة الزرقاء، ويخيب ظنه في ذلك، ومرة أخرى يصل في تتبعه هذا إلى خارج حدود الوطن فيصل مدينة دمشق ليعود إلى مدينة عمّان خلال أربع وعشرين ساعة، ولم يحقق المراد، وكانت هذه العودة السريعة بداية احتكاكه بالحكومة وفتح ملف له. ويُلاحظ انشغال سعيد بحب زميلته الجميلة جداً، حسب وصفه، في سرد ذكرياته، ويقول في ذلك "أن التي تحبها حقيقة لا تشبه إلّا نفسها" (ص 152)، ونجد في قصته هذه تداخلاً بين الواقع والحلم، فالموعد الذي حدده لها هو حلم، بينما تتوفى هي ويموت حلمه معها.
وفي الرواية جوانب أخرى للانكفاء، غير انكفاء سعيد على عالم الأحلام والخيال، منها ما نجده متمثلاً في شخصية صديق وزوج أخت سعيد، الذي يطلق عليه لقب "أمريكي"، فهو شخص منبهر بالحضارة الغربية ولا يتحمل مسؤولية عائلته، في حين يولي سيارته الأمريكية جل اهتمامه. سيارته تلك التي ما أن تمكن من شراءها أثناء عمله في السعودية، حتى عاد إلى الأردن دون أن يسعى ليجد عملاً آخر. يكون هذا الصديق متأكداً أن سيارته الأمريكية متينة، فيقودها بسرعة عالية وبتهور، واثقاً من قدرتها على تجاوز كل ما يمكن أن يصيبها بضرر. وقد كان ذلك، إذ خرجت سليمة بعد أن سقطت في الوادي بسبب قيادته السريعة، فيما فارق "أمريكي" الحياة.
يدرك "سعيد" بتوالي استعراضه لذكريات حياته أن "العالم أكثر تعقيداً من السينما في بعض الأحيان" (ص 278)، ولكنه يبقى منكفئاً على عالم الأحلام، رغم عمله مدققاً في الصحف، ويراه منفذاً لتحقيق ما يراه حقاً له، فهو يحلم الحلم تلو الآخر، في سعي منه لتحقيق ما عجز عنه في الحلم السابق. وبهذا تدور دائرة حياته، في إطار يتداخل فيه الواقع بالأحلام.
ختاماً، تحمل رواية "حارس المدينة الضائعة" للروائي والشاعر إبراهيم نصر الله دلالات متشابكة وتفسيرات متنوعة ضمن سياق ناقد ساخر يمتزج فيه الواقع بالأحلام، ويتيح هذا السياق لشخصيات واقعية تائهة مقيدة بقيود الواقع أن تجد لها مكاناً في الحلم. وصفت وكالة الأنباء الفرنسية هذه الرواية بأنها "سخرية سوداء لاذعة زاخرة بمفردات التغييب للإنسان بدءاً من عام 1948 ... فانتازيا التيه في الذات العربية ".
المراجع:
- الماضي، شكري. "أنماط الرواية العربية الجديدة"، عالم المعرفة، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 355، 2008
- نصر الله، إبراهيم. "حارس المدينة الضائعة"، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998.
- النوباني، شفيق. "عمّان في الرواية العربية في الأردن"، عمّان، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، 2013