أبدى البشر اهتماماً عميقاً بالظواهر الطبيعية، وكان الفلاسفة في طليعة من حاولوا تفسير هذه الظواهر بطرق مختلفة. طاليس، الفيلسوف الأول، الذي خرج عن إطار الحكايات الشعبية في زمانه، كان الأقرب إلى استخدام ما نعرفه اليوم بالمنهجية العلمية. تعتمد المنهجية العلمية الحديثة على خطوات أساسية تشمل: الرصد، البحث، وضع الفرضيات، اختبارها، ثم صياغة نظرية قائمة على تلك الفرضيات. ولكي تكون النظرية العلمية سليمة، يجب أن تتفق مع الملاحظات، وأن تكون قادرة على التنبؤ، وقابلة للتأكيد أو التفنيد. تعود جذور هذه الفلسفة إلى أولى المحاولات البشرية الموثقة المتمثلة بفلاسفة ميلي، وتطورت عبر أفلاطون وأرسطو، وصولاً إلى إسهامات ابن الهيثم وديكارت. جاء بعدهم فرانسيس بيكون، الذي وضع أسس العلم الحديث من خلال منهجه القائم على التجربة والملاحظة. في هذا المقال، سنستعرض مسيرة تطور المنهجية العلمية من فلاسفة ميلي إلى بيكون.
فلاسفة ميلي
بدأت أولى المحاولات البشرية الموثقة لاستخدام منهجية علمية بدائية مع فلاسفة مدرسة ميلي الثلاثة: طاليس، أنكسيمندر، وأنكسيمينس. كل واحد منهم قدم تصوراً مختلفاً لتفسير أصل المادة؛ حيث رأى طاليس أن الماء هو العنصر الأساسي الذي يتشكل منه كل شيء، بينما افترض أنكسيمندر أن "الأبيرون" (اللامحدود) هو العنصر الأولي، في حين اقترح أنكسيمينس أن الهواء هو المادة الأساسية التي تُكوّن كل شيء. هؤلاء الفلاسفة لم يقتصروا على التفكير المجرد لتفسير الظواهر الطبيعية، بل اعتمدوا على الملاحظة والتحليل المنطقي. بهذا، وضعوا الأسس الأولى للتفكير الفلسفي والعلمي في العالم، وبدأوا في تشكيل توجه جديد يعتمد على العقل والتجربة بدلاً من التفسيرات الفكرية المجردة.
أفلاطون
اشتهر أفلاطون بتبنيه للفلسفة التجريدية، أو ما يُعرف اليوم بالفلسفة المثالية، حيث كان يؤمن بأن العقل قادر على الوصول إلى المعرفة الحقيقية دون الحاجة إلى التجربة المباشرة للعالم المحسوس. من هنا ظهرت فكرة "عالم المُثل" لديه، والتي تقول بأن الأفكار الأسمى تنبع من عالم مثالي يمثل الحقيقة الكاملة. في رؤيته، يعيش البشر في عالم مادي يشبه "كهفاً"، حيث يرون فقط انعكاسات مشوهة للحقائق عبر حواسهم المحدودة. ومع ذلك، كان أفلاطون يعتقد أن التأمل العقلي يمكن أن يقود إلى إدراك العالم الحقيقي والفهم الأعمق للوجود. وعلى الرغم من أن منهجيته ركزت على التأمل الفلسفي والبحث عن المبادئ العليا أكثر من التجربة والملاحظة، فإن أفلاطون لعب دوراً محورياً في تشكيل الفكر الفلسفي والعلمي، مما ساهم في تطور المنهجية العلمية بشكل غير مباشر.
أرسطو
رغم تأثر أرسطو بأفكار معلمه أفلاطون التي ساهمت في تشكيل رؤيته الفلسفية، إلا أنه تبنى نهجاً فلسفياً مختلفاً، وهو الفلسفة المبنية على التجربة والملاحظة، والمعروفة اليوم بـ "الواقعية الساذجة" أي ان أي شيء هو نفسه لا انعكاس لصورته من عالم المثل كما تصور أفلاطون. أرسطو اعتقد أن لكل ظاهرة في الطبيعة تفسيراً طبيعياً، بعيداً عن العالم المثالي الذي طرحه أفلاطون. فعلى سبيل المثال، يرى أرسطو أن نزول المطر يحدث بسبب ظروف طبيعية بحتة، وأن الألم على سبيل المثال لا الحصر ينشأ عن أسباب مادية تؤدي إلى تلك التجربة. فيما يخص المنهجية العلمية، يُعتبر أرسطو من المؤسسين للفكر العلمي القائم على الملاحظة والتجربة. كان يرى أن دراسة الظواهر الطبيعية تتطلب الملاحظة الدقيقة أولاً، ثم استخدام العقل لتحليل هذه الظواهر واستخلاص القوانين التي تحكمها. أسس أرسطو نظاماً منطقياً يُعرف بـ "القياس المنطقي"، والذي يتيح استنتاج الحقائق العلمية من مقدمات منطقية. بالإضافة إلى ذلك، قدم مفهوم العلل الأربعة (المادية، الشكلية، الفاعلة، والغائية) لتوفير فهم شامل ومتكامل للظواهر الطبيعية. إسهاماته في المنطق، الفلسفة الطبيعية، والأخلاق كانت حجر الزاوية في بناء المنهج العلمي الحديث. فتوجهه نحو الملاحظة والتجربة فتح الباب لعلماء لاحقين مثل جاليليو ونيوتن لتطوير منهج علمي يعتمد على التجربة الحسية بدلاً من التأمل الفلسفي المجرد.
ابن الهيثم ورينيه ديكارت
أسهم كل من رينيه ديكارت وابن الهيثم إسهامات حيوية في تطور المنهجية العلمية، رغم اختلاف مناهجهم. ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، قدم مفهوم الشك المنهجي كوسيلة للوصول إلى المعرفة اليقينية، مؤكداً على أهمية العقلانية والتحليل المنطقي في البحث العلمي. كما كان له دور بارز في تطوير الهندسة التحليلية، حيث جمع بين الجبر والهندسة لتقديم أدوات رياضية جديدة لفهم العالم المادي. في المقابل، كان ابن الهيثم رائداً في استخدام المنهج التجريبي، خاصة في دراساته حول البصريات. اعتمد على التجربة الدقيقة والملاحظة العلمية لتفسير ظواهر مثل انتقال الضوء وانكساره، وكان من أوائل من شددوا على ضرورة اختبار النظريات علمياً ضد البيانات التجريبية.
كلا المفكرين أسسا منهجاً علمياً يجمع بين التفكير العقلاني والتجربة العملية. ركز ديكارت على التحليل العقلي والمنطقي كأداة لفهم العالم، بينما اعتمد ابن الهيثم على المنهج التجريبي الصارم. هذا التكامل بين العقلانية والتجربة ساعد على ترسيخ أسس المنهج العلمي الحديث، الذي يعتمد على الملاحظة الدقيقة والتحليل النقدي للظواهر.
فرانسيس بيكون
يُعد من أبرز مؤسسي المنهجية العلمية الحديثة. قدم بيكون إسهامات كبيرة في تطور الفكر العلمي من خلال التأكيد على أهمية التجربة والملاحظة كأساس لاكتشافات علمية جديدة، حيث وضع منهجاً يعتمد على الاستقراء العلمي بدلاً من الاستنتاج النظري أو المنطق الصوري.
إسهاماته في المنهجية العلمية:
المنهج الاستقرائي: رفض بيكون المنهج الأرسطي الذي يعتمد على المنطق الصوري (القياس)، حيث اعتبر أن هذا الأسلوب لا يُسهم في تحقيق تقدم علمي حقيقي. بدلاً من ذلك، اقترح منهج الاستقراء، الذي يبدأ بجمع البيانات من الملاحظات والتجارب، ثم يطور قوانين ونظريات عامة من تلك الملاحظات. هذا النهج وضع الأساس للمنهج العلمي التجريبي الحديث، والذي يعتمد على بناء المعرفة تدريجياً من التجارب العملية.
نقده للمنطق الأرسطي: بيكون كان من أبرز المنتقدين للمنطق الأرسطي التقليدي، الذي يعتمد على القياس المنطقي. رأى أن الاعتماد على القواعد المجردة لا يقود إلى معرفة حقيقية أو فهم عميق للطبيعة، وأن الاستقراء المبني على التجربة والملاحظة هو السبيل الأجدى للوصول إلى الحقائق العلمية.
أهم أعماله: قدم بيكون أفكاره حول المنهج العلمي في كتابه الشهير "الأورغانون الجديد" حيث عرض فيه قواعده للتحقيق العلمي القائم على الاستقراء والتجربة. كان هذا الكتاب نقطة تحول في تطوير المنهج العلمي الحديث. بفضل إسهاماته، مهد بيكون الطريق لعصر النهضة العلمية، مؤكداً أن العلم يجب أن يقوم على الملاحظة الدقيقة والتجارب الموثوقة. و على الرغم من رفضه لبعض الأمور التي يمكننا الوثوق بها علمياً اليوم مثل الرياضيات ورفضه لنظرية كوبرنيكوس إلّا أنه يعتبر أحد الرواد الذين أسسوا النهج التجريبي الذي نعتمد عليه في العلوم الحديثة.
ختاماً، تعد المنهجية العلمية واحدة من أفضل الأدوات التي طورها الإنسان عبر العصور لفهم العالم من حولنا وتحقيق تقدم ملموس. ومع ذلك، فإن عالمنا ليس مثالياً ولا يمكن للمنهج العلمي أن يحقق جميع طموحاتنا، إذ يواجه بعض التحديات والمشكلات التي لن أتطرق لها هنا لتجنب الخروج عن موضوع المقال. إلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال الإسهامات الكبيرة التي قدمها عدد لا يُحصى من المفكرين على مدار القرون الماضية، الذين أضافوا لمساتهم وطوروا هذا المنهج ليصل إلى ما هو عليه اليوم.
المصادر:
- Bertrand Russell, the history of the western philosophy, pt.1,(132-172)
- Bertrand Russell, the history of the western philosophy, pt.1, (190-236) Bertrand Russell, the history of the western philosophy, pt.3, (73-83)
- Bertrand Russell, the history of the western philosophy! Pt.3 (56-60)
- https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D8%A8%D9%86_%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8A%D8%AB%D9%85