يُعدُّ المكان عنصراً أساسياً من عناصر السرد الروائي، فهو الموقع الذي تجري فيه أحداث الرواية وتتحرك فيه شخصياتها عبر زمان معين، بل يتجاوز المكان دوره، في بعض الأعمال الروائية، من مجرد خلفية للأحداث ليصبح عنصراً فعّالاً في تشكيل السرد وتطور الحبكة وتوجيه مصائر الشخصيات. ومن ناحية أخرى، يتأثر المكان ذاته بنمو الشخصيات وصراعاتها الداخلية ودوافعها، ما يؤدي إلى تغيّره وتشكّل ملامحه وفقا لتلك التحولات. وفي هذا الإطار، يختار الروائي المبدع جمال ناجي مكاناً منتجاً للأحداث ومحركاً لها ولشخصياتها في روايته "مخلفات الزوابع الأخيرة"، التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 1988، وجاءت بحجم متوسط يتألف من 287 صفحة.
تدور أحداث هذه الرواية في مكان متخيل، وهو وادي موحش مهجور، يشهد تطوراً وعمراناً عبر فترة تعاقب أجيال ثلاثة من عائلة واحدة، ومع ذلك، لا تغيب عن الرواية مظاهر الواقعية سواء في عناصرها أو طبيعة الشخصيات وعلاقاتها المتشابكة مع بعضها البعض، وعلاقة الشخصيات مع المكان على نحو خاص. وفي هذا الإطار، يقول الروائي في بداية الرواية "لو تعود المدينة بخوائها إلى الوراء، فإن الوادي سيعود مثلما كان قبل ارتحال "سبلو الغجري" إليه: مكاناً موحشاً، وملتقى للُّصوص الذين تخذوا من كهوفه حصوناً لهم، ومخابئ تستعصي على الانكشاف!... هنا تزدحم الوجوه، فيطل سبلو الغجري" وزوجته "بهاج" ثم ابنتهما "هاجار"، يطل "عثمان أبو بركة" وزوجته وأولاده لا سيما "حامد" أصغرهم! يطلون جميعا ...لأنهم كانوا مقدمة للحشود التي اتخذت من الوادي موطناً لها " (ص11). في هذا الوادي الموحش، كانت تعيش عائلة أبو بركة وحدها، بينما كانت كهوفه ملاذاً للخارجين عن القانون، ولكن، يأخذ الوادي مساراً أخر مع قدوم "سبلو الغجري" وزوجته وابنتهما الصغيرة لهذا الوادي، الذي ترك قبيلته الغجرية بسبب مشكلة لم يقدر على مواجهتها، فقرر الابتعاد نهائياً عن قومه، مع ذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى زاره قومه بعد بضعة أسابيع للاطمئنان عليه، بعدما بنى بيتاً صغيراً من الحجر والإسمنت، أسوة بجاره الوحيد، الفلاح "عثمان أبو بركة".
يبدأ الغجر بملاحظة الفارق بين حياة الترحال والاستقرار، فيقررون العيش في الوادي والتخلي عن حياة الترحال، وفي الوقت نفسه، كانت تستوطن الوادي فئات مختلفة من الناس، أطلق عليهم الغجر اسم "الفلاحين"، وبسبب العدد الكبير للغجر الذين استقروا في الوادي، سمّى الكثير من الفلاحين هذا الوادي اسم "وادي الغجر". وكان لهذا السعي للاستقرار والهروب من مصير التشرد أو الترحال ثمن دفعه سكان الوادي لغير مالك الأرض الحقيقي. وفي هذا السياق، يقول جمال ناجي في روايته: "هكذا استولى عثمان أبو بركة على أراضي الوادي، دون أن يعرف شيئاً عن المالك الحقيقي لتلك الأراضي ...، ولقد ترسّخت ملكيته تلك على مر الشهور، بحيث غدت واحدة من مسلمات الحياة في الوادي، وصار لزاماً على كل من يريد البقاء هناك، أن يدفع ثمن الأرض التي يختارها لعثمان..." (ص 34). يجد عثمان، وهو من الجيل الأول لعائلة أبو بركة في هذه الرواية، فرصة في وجوده الأول والوحيد في الوادي المهجور لاستغلال حاجة الناس إلى الاستقرار. فيبدأ بفرض ثمن على كل من يرغب في استيطان الوادي، حتى ولو كان ذلك لمساحة صغيرة من الأمتار، مستخدما في ذلك سطوة البلطجة. ومع مرور الوقت، يصدر عثمان أبو بركة حجج بيع للسكان الجدد كإجراء احترازي قانوني للأرض، يضمن بها حق السكان فيها. إلّا أن الجميع كانوا يدركون في أعماقهم أن لهذه الأرض مالكاً حقيقياً غير عثمان أبو بركة، لكن يبدو أن الفقر كان حاجزاً أمام مواجهة هذه الحقيقة أو التغاضي عنها وتركها للزمن، فلا يُعقل ألا يظهر صاحب الأرض الأصلي ويُطالب بها، وخاصة بعد أن أصبحت مأهولة بالسكان.
يقدم جمال ناجي في روايته صوراً أخرى لاستغلال سعي الناس إلى الاستقرار المكاني والحفاظ عليه؛ إذ انتظر صاحب الأرض الأصلي "رضوان الرضوان" سنوات طويلة قبل أن يُبلّغ سكان الوادي، بقوة القانون، ضرورة دفع ثمن الأرض أو إخلائها، تلك الأرض التي ارتفع ثمنها، خلال تلك السنوات، إلى مستويات تفوق القدرة المادية لمعظم السكان، بينما تتطور أدوات الاستغلال لدى "سلمان أبو بركة"، الذي يبرم اتفاقاً سرياً مع "نزار أبو خنجر"، مالك محل الملابس في الوادي، و"رضوان الرضوان". وينص الاتفاق على حصول سلمان ونزار على عمولة من رضوان إذا نجحا في إقناع السكان بدفع ثمن الأرض، على أن تُدفع العمولة لهما بعد إتمام كل صفقة بيع.
تتألف الرواية من فصلين يحملان اسمي، "الكتاب الأول" و"الكتاب الثاني"، ويحتوي كل من الكتابين على فصول فرعية تحمل أسماء شخصيات الرواية الرئيسية، بالإضافة إلى فصول أخرى تحمل أسماء أحداث فارقة في التطور التدريجي للصراع، ما أضفى تناغماً في بنية السرد. كما تختلف الفترة الزمنية التي تجري فيها أحداث كل كتاب. يعرض الكتاب الأول الشخصيات الرئيسة المحركة لأحداث الرواية، وعلاقتها بالمكان وتطوره، بالإضافة إلى التحولات الاجتماعية والقيمية التي طرأت على مجتمع الرواية بعد استقراره في الوادي المجاور للمدينة وتأثره بالقيم المدنية. تجري أحداث الكتاب خلال فترة تعاقب الأجيال الثلاثة من عائلة أبو بركة، بدءاً بقدوم "سبلو الغجري" إلى الوادي، لينتهي الكتاب الأول بوفاة حامد بن عثمان أبو بركة، الذي تابع مسيرة والده في استغلال من يرغب في الاستقرار في الوادي. ثم يتولى ابنه، سلمان، هذه المهمة من بعده. يعرض الكتاب الثاني في بدايته ذروة الأزمة التي تصاعدت تدريجياً في الكتاب الأول؛ إذ يصدر قرار نهائي من المحكمة يقضي بتبليغ سكان الوادي بضرورة إخلاء مساكنهم إذا لم يدفعوا ثمناً لأراضيهم لصاحب الأرض الأصلي، ويمنح القرار السكان مهلة مدتها خمسة عشر يوماً من تاريخ التبليغ، وهي الفترة الزمنية التي يتناولها الكتاب الثاني.
في رواية "مخلفات الزوابع الأخيرة"، يعرض الروائي جمال ناجي، كيف يمكن للاستقرار المكاني أن يسهم في تقليص التوترات أو العزلة التي تنشأ من اختلاف الجماعات المتعددة داخل المجتمع الواحد؛ فرغم ثنائية العرق والثقافة بين سكان الوادي، لم تعش شخصيات الرواية في عزلة كمجموعتين منفصلتين اجتماعياً وروحياً، بل، وبمرور الزمن، تعايشت هاتان الفئتان، الغجر والفلاحون، مع الاحتفاظ بخصوصية كل منهما من ناحية أسلوب الحياة وتفضيلاتها وسلوكياتها. ولكن، يُولي الكاتب اهتماماً أكبر بتفاصيل حياة الغجر وعاداتهم ورؤيتهم العفوية للحياة، مقارنة بما قدّمه من تصوير لحياة الفلاحين والمدينة. قد يكون سبب تركيز جمال ناجي على حياة الغجر، لأنهم يمثلون رمزاً للحرية والتحرر من القيود في الأعمال الروائية، ومن ناحية أخرى، يبرز الكاتب مدى تأثر الغجر بالحياة في الوادي؛ فنراهم وقد تركوا حرفهم التقليدية، واستبدلوها بأعمال ذات صلة بالحياة المدنية، وغادروا مضاربهم وتركوا ترحالهم واستبدلوها ببيوت سكنية ثابتة. كما يبرز الكاتب دور المرأة الغجرية بشكل واضح في "بناء المكان" ومشاركتها الفاعلة في الحياة العامة والخاصة في الوادي، كما هو الحال في شخصية "هاجار" ابنة "سبلو الغجري"، التي انطلقت للعمل وحسنت من دار والدها، وعلى الرغم من وجود بعض النزعات السلبية المتمردة في مسلكها، ظلت محافظة على موقفها الرافض لدفع ثمن الأرض المرتفع لرضوان، ولم تُخلِ مكانها وتغادره. في المقابل، لم تحظَ المرأة الريفية في الرواية بنفس الحضور والدور المحرك الذي تميزت به المرأة الغجرية، باستثناء هادية زوجة نزار أبو خنجر التي اقترحت على زوجها فتح محل لبيع الملابس وساندته بمعرفتها وآرائها، ومع ذلك، بقي دورها خفياً ولم يظهر للآخرين في الوادي.
يبرز جمال ناجي في روايته، وجها آخر في مواجهة الاستغلال المادي، وهو الوجه المثقف الواعي ممثلاً في شخصية "جبر أبو بركة"، الذي كان رغم نشأته في كنف عائلة تستغل حاجة الناس إلى الاستقرار المكاني ورغبتها في التكيف مع متطلبات الحياة المدنية، نجده لا يشارك في أعمال واهتمامات العائلة، بل يصر على إكمال تعليمه الجامعي والعمل فيما يرتضيه لنفسه. ويتميز جبر بثقافة جيدة وهدوء واتزان، ومع ذلك، لم يكن له أصدقاء في الوادي، إذ كان يُوصف بالغموض ويُعدّ شخصاً منغمساً في الكتب والمجلات، في حين لم يكن لدى سكان الوادي نفس الاهتمام بالتعلم وتوسيع معرفتهم، فلم يكن وعيهم يقارب وعيه. ورغم عدم التفاعل ما بين جبر ومجتمعه، إلا أنه ما إن علم بقرار تبليغ سكان الوادي، حتى اتخذ موقفاً معارضاً لهذا الاستغلال. وفي هذا السياق، يصف الراوي إحساس جبر بضرورة أخذ دور فاعل في حواره مع "هاجر" الغجرية: "والتمعت عيناها ببريق بث في نفسه إحساساً بأنه مُقدِم على خوض معركة حقيقية مختلفة عن تلك التي اعتاد خوضها مع الطلبة في الأندية والجمعيات "هنا يستطيع المرء ترجمة أفكاره" قال في نفسه فتعاظم أمامها "هذه فرصتي للخروج من دوائر النظريات إلى حيث المشاركة الفعلية" (ص222). يسعى جبر بكل جهده لإقناع سكان الوادي بعدم دفع الثمن المرتفع للأرض، والعمل على إيجاد حل يراعي الظروف المادية الصعبة لكثير من سكان الوادي. ينجح جبر في استخدام وسائل الإعلام للحصول على مساندة الرأي العام، كما يتواصل مع مسؤولين لمساعدته في إيجاد الحل المناسب. ولكن، تبوء محاولات جبر بالفشل، فيضطر سكان الوادي، صاغرين، إلى دفع ثمن الأرض للمرة الثانية، وبالمبلغ المرتفع الذي حددته الفئة المستغلة في الرواية، باستثناء ثلاثة من الفلاحين و"سبلوا الغجري" وابنته "هاجار".
يسرد جمال ناجي أحداث روايته، في مكان متخيل. وهذا ما يمنحه، على ما يبدو، مساحة أوسع وحركة أكبر للتعبير عن العلاقة بالوادي وسكانه، والصراع الأساسي المتمثل في الحفاظ على الاستقرار المكاني وسط فئة مستغِلة. كما ويتجلى في السرد تأثير المكان على الشخصيات، إذ تبرز الصراعات الداخلية التي يعيشها كل فرد وفقًا لتأثره بثقافته وما ورثه من عادات وتقاليد، بالإضافة إلى طموحاته ونزعاته الشخصية. كما يتناول ناجي تأثر الوادي بالمدينة وقيمها ونمط حياتها، دون أن يترك تأثيراً متبادلاً، فيصبح الوادي كأنه تابع المدينة. ورغم عدم ذكر اسم المدينة المجاورة للوادي في الرواية، إلا أن بعض الإشارات توحي بأن هذه المدينة هي عمّان. ويظهر ذلك من خلال وصف نشأة وتطور الوادي مع توافد السكان من فئات مختلفة عبر فترات زمنية، وهو وصف يذكرنا بنشأة وتطور مدينة عمّان، التي شهدت توافد المهاجرين والنازحين من ثقافات متنوعة. بالإضافة إلى ذلك، يتجلى ملمح آخر في وصف السيل الذي يجري عبر الوادي، وهو من الملامح المعروفة في المدينة. كما يعزز ذكر الدينار في سياق الأحداث فكرة أن الرواية تدور في بيئة مترابطة مع مدينة عمّان.
استخدم الروائي المتميز جمال ناجي في روايته "مخلفات الزوابع الأخيرة"، أسلوباً سردياً يتسم بالوضوح والسلاسة كان فيها الراوي العليم ببواطن الأمور هو السارد في الرواية. واعتمد الكاتب الحوار في الرواية اعتماداً محدوداً، إذ لم يشكل سوى نسبة ضئيلة من السرد، وكان ذلك بشكل خاص في الكتاب الثاني من الرواية، إذ كان الحوار يدور حول كيفية تعامل سكان الوادي الفقراء مع قرار التبليغ وكيفية استغلال نزار أبو خنجر وسلمان أبو بركة لهم مجدداً. وفي نهاية الرواية، يبقى الوادي عامراً بسكانه؛ إذ لجأ العديد منهم إلى الاستدانة لدفع ثمن الأرض التي بنوا عليها بيوتهم، بعد فشل محاولات جبر أبو بركة، المثقف الواعي، في إقناعهم بعدم دفع الثمن المرتفع مقابل الأرض، وهكذا، يقع السكان مرة أخرى ضحية لاستغلال رغبتهم في الاستقرار المكاني والحفاظ عليه.
المراجع:
- الأزرعي، سليمان، "هواجس الرواية الأردنية الجديدة"، عمّان، الآن ناشرون وموزعون، 2015.
- حداد، نبيل، "الكتابة بأوجاع الحاضر: دراسات نصية في الرواية الأردنية"، عمان، أمانة عمان الكبرى، 2013
- ناجي، جمال، "مخلفات الزوابع الأخيرة" بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، 1988
- النوباني، شفيق. "عمّان في الرواية العربية في الأردن"، عمّان، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، 2013
- يعقوب، ناصر، "الرؤية والتشكيل، دراسة في فن جمال ناجي الروائي"، عمان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، 2001