اللغة وجه من أوجه الفكر، وملمح من ملامح السريرة، تنجلي بها نجوى النفس فتريح عن كاهلها شيئاً من ثقل لواعجها، فإن الكلام مادتنا الأولى لنخبر العالم من نحن ولولا الكلام ما درى بنا القاصي والداني ولولا بلاغة لغتنا وارتقاء ألفاظها ورفعة معانيها ما وجدنا عصا نتكئ عليها فنسير بها حيث دوافع النفس وبواعث الخيال، فلا نفع يرتجى من الكلمة ما لم تمض في القلوب وتجول في النفوس حتى تمسي أحاديث سمر المحبين وسلوة المحزونين.
لغتي نبع شربت منه أعواماً فما ارتويت ولا هو جفت ماؤه، كلما أردت أن أشفي ظمأي منه ازددت عطشاً، وكلما أردت أن أحمد حشاي بلفظة انقذت في مكامن النار واضطرب خافقي وفاض مدمعي، وحل بقلبي الكلام العذب فانتشى وكأنه لا زال يهوى أو كأنها أوية الهوى، على أنني لا أجنح إلى ما يُبرد حر وجدي بل إنني أجيء على قدر لما يلهب في نفسي سرائرها، فلا احط ركابي عند بيت شعر رديء ولا أنا ألقي السمع لما هو خال من ذكرى حبيب ومنزل، إنما أمكث ساعات طوال أتذوق حلاوة مطلع القصيدة ولا أبرح حتى تجول نفسي فيه وتسرح كل مسرح، كما أنني أعيد على قلبي القوافي مراراً وتكراراً، لتبعث في النفس نشوة الحب، وليرد القلب غرفة من نهر الذكريات ويأنس بالحكمة فيجد الهدى.
إن أعظم هبة من الله هي أنه جعل القرآن عربياً وجعل ألسنتنا عربية فوهب لنا بذلك سراً من أسرار الفكر، فإنه وبلا شك للغة أثر كبير على الفكر ولها ما ليس لغيرها من تكوين شخصية الفرد وجعله حصيلتها في كل الأحوال ونتاجها من العمق والغوص في الكلمات حتى يصبح العمق أيضاً سمة من سماته وأمارة من أمارات بلوغها فيه أبعد الأثر، ويجب على الناس أن يدركوا هذه الهبة من الله فيتهافتوا على إدراك علومها والسير إليها كل مسرى، فإن كثيراً من الناس لا يراعي في حديثه لذة المعنى وجزالة الألفاظ ولا يداري حاجة القارئ إلى ما يُحيي فيه نفسه المنسية التي يتقفى أثرها عند طلعة الحروف وتناسق الكلمات ورنة السجع وحلاوة البلاغة فيطيب له المتكأ وبلد المقام.
إن لم يكن في اللغة والكلمات ما يُحدث أثراً جللاً في نفس القارئ من شأنه أن يحرك ما جار عليه الزمان من الشوق في قلب المحب، أو يوقظ عين الغفلة في نفس الهائم النائم فيجري ماء همته الراكد، أو يقبض على عنق الجهل فيبدد فكر الجاهل المستبد، ويُحيل غصن فكره اليابس إلى بستاتين من العلم يقطف جناها كلما سنا برق فكرة وخطرت للقلب خطرة، فقد قصر الكاتب وخر بنيان كلماته لأنها استندت على شفا جرف هار فانهارت به.
وإن عقدت العزم لتزيين كلماتك بحلل البلاغة وتعطيرها بعطر البيان حتى تتهيأ للقاء القارئ، فإن أول مورد للغة هو القرآن فلتقف على إعجازه وما جاء به من الحق المبين وأعجز أهل الفصاحة ثم تمحص في حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ومن أوحي إليه بهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما أن أشعار العرب وإرثهم الخالد وأخبارهم وسيرهم هي نقطة انطلاقك الأولى وغرة بلوغك مبلغاً من اللغة، ومن أعطى قراءة الأدب فضلة وقته لن يبرح مكانه، وإنما علينا انتقاء أفضل الاوقات التي تجد فيها النفس راحتها وتذر هموم الدنيا ومشاغل الحياة وتقبل وفي محياها البشر تختلي بالكتب التي هي منتهى سنين من العمل والسعي والدراسة والتجارب وهبها لنا الكاتب فكانت حصيلة حياته وزبدة تجاربه وصفوة العمر الطويل جاءت إليك أنت، فحري بك أن تحكم عقلك فيها وتشرح صدرك لها، فلتكن جديراً بها حتى تراها جديرة بك، كما أنك ستقف على مطلع قصيدة كانت غلة سنين من القحط والجدب عاشها الشاعر وذاق فيها ما ذاق حتى أحبك نسج القصيدة وأتقن صنعها وسيقت إليك وقد قيد لك ويلاته فيها وضمن خيباته وكنى هزائمه، فهو لا يكون شاعراً إلّا حين تتناهبه صروف الزمان وتنهش فكره حوادث الدهر، هناك تجده شاعراً.
قيل قديماً: لكل إنسان لغته كما لكل إنسان وجهه، فوجب أن تتعلم لغتك حتى تعرف نفسك فتنفرد بها عن الآخرين، وتجالس الكتب وتثقب نظرك في الأشعار حتى تقوى حجج عقلك وتولد قريحتك، فيكن لك في كل حرب صولة وفي كل فكرة جولة، وهذا والله جل ما أقوله في قولي هذا، تعلم لغتك حتى لا تلفحك نيران الجهل بها وترعرع في صنوف الأدب حتى تشب عليها، وأدرك ما تبقى من صحوة الفكر وتوقد الشباب، قبل أن تروح في سبات بنات فكرك ولا تقوم قيامتها إلّا حين يأتيك الموت، أو تهرم روحك فلا تسمع فيها حمحمة جوادك، وتخبو حدة فؤادك.