فيلم المخرج فرانسوا تروفو" 400 ضربة" من الأفلام التي عكست بوضوح ملامح مدرسة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية والتي ظهرت في ستينيات القرن الماضي وانتشر تأثيرها في شتى أرجاء العالم، حيث لم يكتف مخرجو هذه الموجة بإخراج الأفلام بل عمموا أفكارهم عبر الدراسات النظرية التي كانوا ينشرونها في المجلة الشهيرة" دفاتر السينما" خاصة وأن معظمهم كانوا نقاداً سينمائيين قبل أن يتجهوا للإخراج.
لاقى فيلم" 400 ضربة" الكثير من الإعجاب من قبل نقاد السينما في العالم، حيث ذكر أحدهم في مقدمة مقاله التحليلي للفيلم أنه ما أن يشاهد المرء الفيلم حتى تنشأ لديه الرغبة في إخراج الأفلام بنفسه. وكتب ناقد آخر أن ما من فيلم يستطيع أن يهز مشاعر المشاهدين مثل هذا الفيلم. وتضمن الكثير من المقالات التحليلية حول الفيلم إشادات مشابهة.
بطل الفيلم مراهق في الثالثة عشر من عمره يدعى أنطوان يعيش مع أمه وزوجها في أحد أحياء باريس الفقيرة. إنه غير راضٍ عن الحياة التي يعيشها، يكره المدرسة والدراسة، حيث يعتبره الأستاذ ولداً مشاغباً ويجعل أموره في المدرسة صعبة. أما حياته في البيت فليست أقل صعوبة منها في المدرسة، فوالدته امرأة عصبية ونادراً ما تعلن رضاها عن ابنها، أما زوج والدته فهو إنسان بسيط يتركز كل اهتمامه على المراهنة في السباق، كما أن العلاقات بين الأم وزوجها متوترة وغالباً ما يسمعهما يتشاجران أثناء الليل.
المتعة الوحيدة التي يمارسها أنطوان في حياته هي عندما يتسلل من المدرسة مع زميل له ويذهبان إلى المعرض حيث توجد قاعة دوارة يلتصق الرواد بجدرانها فتدور بهم بسرعة فائقة. أما المتعة الثانية التي يمارسها مع صديقه فهي مشاهدة الأفلام في صالات السينما. وبطبيعة الحال فإن تكرار هروب أنطوان من المدرسة سيعرضه للكثير من المتاعب، خاصة وأنه يعجز عن تقديم أسباب تبرّر غيابه، وهو ذات مرة يبرّر غيابه بوفاة والدته، غير أن كذبه لا ينطلي على أحد خاصة وأنه استعمل نفس العذر سابقاً. بعد ذلك يقرر أنطوان الهرب من المنزل، ويصوره المخرج في مشاهد مؤثرة وهو يذرع شوارع باريس ليلاً في جو من البرد الشديد. في صباح اليوم التالي يعود إلى المدرسة حيث ستعثر عليه أمه وتصطحبه إلى المنزل وتحاول العناية به، غير أنه يشعر أن كل هذا الاهتمام به غير صادق. وتتعقد أمور أنطوان ثانية في المدرسة عندما يتهمه الأستاذ بالغش في موضوع الإنشاء وسرقة المادة من قصة للكاتب الفرنسي بلزاك، هذا في حين أن أنطوان اقتبس فقط فقرة صغيرة من بلزاك في نهاية موضوعه.
بعد ذلك يقرر أنطوان الهرب ثانية، وهو بمساعدة صديقه، يحاول سرقة آلة كاتبه من المكتب الذي يعمل به والده بهدف بيعها والصرف على نفسه من ثمنها، غير أن محاولته تفشل ويتم القبض عليه. وفي النتيجة يرسله والداه إلى مركز لتأهيل الأحداث حيث ستصبح حياته أكثر صعوبة وتعقيداً، ولكنه يتمكن من الهرب من مركز الأحداث. من هذه النقطة يتابع الفيلم سلسلة انهيارات أنطوان ومأساة حياته، وينتهي الفيلم بلقطة مقربة لوجهه.
حكاية الفيلم إذن، بسيطة، وقد تبدو مشابهة لحكايات أفلام كثيرة لاحقة، تأثر مخرجوها به، وتتحدث حول بؤس حياة الأطفال الفقراء، غير أن ما يميز فيلم " 400 ضربة" هو شحنات العواطف المؤثرة بعمق في النفوس وقوة وصدق العرض الواقعي لأحداث الفيلم، هذا بالإضافة إلى براعة الإخراج والتصوير. ما يثير الإعجاب في الفيلم أيضاً هو الأداء المعبر جداً للطفل جان بيير لو الذي لعب دور انطوان، والذي سرعان ما سيصبح لاحقاً من الممثلين المفضلين في أفلام تروفو وسيصبح أيضاً واحداً من أبرز نجوم السينما الفرنسية، ومن أكثرهم تميزاً.
ينتمي هذا الفيلم الذي يوجه نقداً حاداً للحياة الاجتماعية وللعلاقات العائلية في باريس إلى ما يشبه السيرة الذاتية، حيث أن الكثير من الأحداث التي يصورها المخرج مستقاة من أحداث مشابهة تعرض لها في طفولته ومنها مشهد اعتقاله في مركز البوليس ثم نقله في سيارة الشرطة إلى جانب مجموعة من المومسات. كما أن المشاهد الرائعة التي تضمنها الفيلم والتي تبيّن انبهار انطون بالسينما وتأثره بعوالمها مستمدّة من طفولة المخرج ذاته، وهو ما قاده في النهاية ليمتهن إخراج الأفلام.
ولهذا اعتبر النقاد أن فيلم" 400 ضربة" هو الفيلم الأكثر ذاتية وشخصية بين أفلام فرانسوا تروفو حيث عبّر فيه عن أعمق مشاعره الذاتية وأكثرها خصوصية. مضى على إخراج هذا الفيلم ما يقارب نصف القرن، غير أنه ما يزال، وعلى الرغم من تصويره بالأبيض والأسود، يحتفظ بنضارته في الزمن الحالي.