السينما ليست مجرد وسيلة ترفيهية فحسب، بل هي لغة بصرية عاطفية قادرة على نقل المشاعر والأفكار بطريقة عميقة ومؤثرة، ففي كل فيلم روائي ناجح يوجد بطل، الشخصية التي يرتبط بها الجمهور ويعيش معها رحلتها الدرامية، لكن هذا التعاطف لا ينشأ صدفة، بل هو نتاج تناغم دقيق بين عدة عناصر سينمائية تعمل معًا لتحفيز مشاعر المشاهدين وتعزيز علاقتهم بالبطل فهو قلب الفيلم النابض، الذي يُنتظر منه أن يحمل المشاهد في رحلة شعورية معقدة.
ويعتمد نجاح الفيلم الروائي في تحقيق هذا الارتباط العاطفي على التكامل بين عدة عناصر سينمائية، تتضافر معًا لخلق تجربة إنسانية تجعل المشاهد يتماهى مع البطل، يشعر بألمه، يفرح بانتصاراته، ويخوض صراعاته الداخلية والخارجية.من خلال الكتابة الدرامية المحكمة، والرؤية الإخراجية المدروسة، والتصوير السينمائي المعبر، والموسيقى التصويرية المؤثرة، والإضاءة الذكية، والمؤثرات البصرية المتقنة، والتصميم الفني الدقيق، والأداء التمثيلي العميق، والمونتاج الذي يصوغ الإيقاع العاطفي، يتمكن صانع الفيلم من بناء علاقة وجدانية بين الجمهور والبطل، مما يجعل التجربة السينمائية أكثر عمقًا وصدقًا .
يمثل النص السينمائي حجر الأساس في عملية بناء التعاطف، حيث تتجلى قوة السيناريو في خلق شخصية تمتلك أبعادًا إنسانية معقدة تجعلها قريبة من الجمهور، سواء كانت شخصية إيجابية أو حتى شخصية مضطربة نفسيًا.
فلا يكفي أن يكون البطل "جيدًا" أو "مثاليًا"، بل يجب أن يكون لديه صراعات داخلية أو تحديات تجعله أكثر واقعية، ففي فيلم (1994) "Forrest Gump"، نجد أن البطل شخص بسيط التفكير لكنه يتمتع ببراءة وقلب نقي، ما يجعله محبوبًا رغم بساطته.
على الجانب الآخر، في فيلم (2019) "Joker"، يُقدم السيناريو شخصية مضطربة نفسيًا تعاني من الاضطهاد الاجتماعي، مما يجعل المشاهدين يتعاطفون معها حتى وهم يشاهدونها تنحدر نحو العنف. هذا البناء الدرامي هو الذي يحدد إلى أي مدى سيشعر الجمهور بالقرب من البطل، ويدفعهم إلى فهم أفعاله ودوافعه .لكن السيناريو وحده لا يكفي، فالرؤية الإخراجية هي التي تحوّل الكلمات إلى صور وحركة ومشاعر محسوسة. المخرج هو المسؤول عن كيفية عرض القصة، وعن الطريقة التي يمكن من خلالها تقريب الجمهور من البطل عبر زوايا التصوير، وحركة الكاميرا، والتكوين البصري .
وقد ظهر هذا في فيلم (1993) "Schindler’s List"، حيث استخدم ستيفن سبيلبرغ التصوير بالأبيض والأسود، مضيفًا لمسات بصرية مؤثرة مثل المعطف الأحمر للطفلة الصغيرة، ليجعل المشاهد يشعر بالصدمة والحزن العميق تجاه معاناة الشخصيات.
أما في (2006) "Children of Men"، فقد اختار ألفونسو كوارون لقطات طويلة غير منقطعة، حيث تتحرك الكاميرا بحرية وسط الشخصيات، مما يمنح المشاهد إحساسًا بأنه يعيش الأحداث إلى جانب البطل، مما يعزز التعاطف معه. أن التصوير السينمائي يلعب دورًا محوريًا في تجسيد المشاعر الداخلية للشخصيات، حيث يمكن للكاميرا أن تكون نافذة إلى عالم البطل النفسي. من خلال اختيار زوايا معينة أو استخدام عمق الميدان الضيق، يتمكن المصور السينمائي من توجيه انتباه المشاهد إلى اللحظات الأكثر أهمية عاطفيًا. ففي فيلم (2015) "The Revenant"، تم توظيف الإضاءة الطبيعية واللقطات القريبة لوجه ليوناردو دي كابريو لنقل إحساس العزلة والقسوة التي يعيشها البطل في رحلته للانتقام. بينما في فيلم (2010) "Black Swan"، تم استخدام زوايا تصوير غير مستقرة لتصوير حالة التوتر النفسي التي تمر بها البطلة، مما يجعل المشاهد يعيش حالتها الذهنية المضطربة.
كذلك الموسيقى التصويرية لا تقل أهمية عن العناصر البصرية، فهي المفتاح الذي يوجه المشاعر ويوحد الإيقاع العاطفي للفيلم . في فيلم (2014) "Interstellar"، استخدم هانز زيمر موسيقى قائمة على آلة الأورغن، ما منح المشاهد إحساسًا بالعظمة والعزلة العاطفية في الوقت نفسه.
في المقابل، اعتمد فيلم (2006) "The Pursuit of Happiness" على ألحان هادئة وبسيطة تواكب الرحلة العاطفية للبطل، مما جعل اللحظات الصعبة أكثر تأثيرًا. في بعض الأحيان، يكون الصمت نفسه أداة موسيقية فعالة، كما في
(2018) "A Quiet Place"، حيث تم توظيف الصمت لتعميق التوتر وجعل المشاهد يتفاعل مع عالم الشخصيات بشكل أكثر حدة. تلعب الإضاءة أيضا دورًا رئيسيًا في التلاعب بمشاعر المشاهد تجاه البطل، حيث يمكن للإضاءة الناعمة أن تعكس الدفء والحميمية، بينما تعكس الإضاءة القوية والتباينات العالية التوتر والاضطراب النفسي. ففي (1972) "The Godfather"، تم استخدام الظلال الداكنة والإضاءة الخافتة لتعكس التحولات الداخلية لمايكل كورليوني، مما جعل شخصيته تبدو أكثر غموضًا وتعقيدًا . أما في "La La Land" (2016)، فقد استُخدمت الإضاءة الساطعة والألوان الزاهية لإضفاء طابع حالم على القصة، مما عزز إحساس المشاهد بالرومانسية والتفاؤل.
ولا ننسى دور المؤثرات البصرية، رغم ارتباطها عادةً بالأفلام الخيالية، حيث تلعب دورًا في تعميق فهم الجمهور لمشاعر البطل. في Life of Pi" (2012)"، لم تكن المؤثرات مجرد وسيلة لجعل النمر يبدو واقعيًا، بل كانت أداة لتعزيز الإحساس بالعزلة والرهبة التي يعيشها البطل في رحلته وسط المحيط.
في حين أن التصميم الفني، بما يشمله من ديكور وأزياء، هو عنصر آخر يساعد على بناء التعاطف من خلال خلق عالم البطل وإبراز طبقته الاجتماعية وحالته النفسية. في Parasite" (2019)"، كان الفرق بين تصميم منزل العائلة الغنية والمنزل السفلي الذي تعيش فيه العائلة الفقيرة أداة بصرية فعالة لفهم التفاوت الطبقي وتعميق التعاطف مع الشخصيات .
ومن أهم العناصر التي يركز عليها صانع الفيلم هو الأداء التمثيلي فهو الرابط الأكثر مباشرة بين المشاهد والبطل، حيث يعتمد نجاح الفيلم في خلق التعاطف على مدى قدرة الممثل على تجسيد المشاعر بصدق.
ففي فيلم (2006) "The Pursuit of Happiness"، قدم ويل سميث أداءً شديد العاطفية، خاصة في المشاهد التي يظهر فيها إحباطه وصراعه من أجل توفير حياة كريمة لابنه، مما جعل المشاهدين يشعرون بعمق مأساته، وعلى نحو مماثل، نجح خواكين فينيكس في (2019) "Joker" في تقديم أداء معقد يجمع بين الضعف النفسي والانفجار العاطفي، مما جعل الشخصية أكثر إثارة للشفقة رغم أفعالها العنيفة.
أما المونتاج، فهو الذي يحدد إيقاع الفيلم العاطفي، حيث يمكنه أن يزيد من التوتر أو يمنح المشاهد لحظات هادئة للتأمل، مثل ما جاء في فيلم (1976) "Rocky" ، تم استخدام مونتاج سريع لمشاهد التدريب لتحفيز المشاهد على التفاعل مع تطور البطل، بينما في فيلم Requiem for a Dream" (2000)، استخدم مونتاج متسارع ومُجزّأ في المشاهد الأخيرة لتعكس الانهيار النفسي للشخصيات.
وهنا نستطيع القول أن السينما تعدّ فنًا متكاملًا يتطلب تناغمًا بين جميع عناصرها لخلق تجربة عاطفية مؤثرة، فعندما يتم توظيف النص، الإخراج، التصوير، الموسيقى، الإضاءة، التصميم الفني، الأداء، والمونتاج بشكل متناغم، يتحول البطل إلى كائن حي ينبض بالمشاعر على الشاشة، ويصبح الفيلم تجربة إنسانية عميقة.
التعاطف مع البطل لا يتحقق عبر عنصر واحد فقط، بل من خلال تكامل جميع الأدوات السينمائية في خلق عالم يجذب المشاهد ويجعله يعيش تجربة البطل كما لو كانت تجربته الشخصية، هذه هي قوة السينما الحقيقية، أن تجعلنا نرى العالم بعيون أخرى، ونشعر بقلوب شخصياتها، مما يجعل الفيلم أكثر تأثيرًا واستدامة في الذاكرة السينمائية.