تسعى العديد من الروايات إلى سبر أغوار المجتمع وكشف ما يعانيه من تحديات ومشكلات، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها من التحديات التي تترك أثاراً سلبية وخيمة على الكثير من أفراده، وخاصة أولئك الذين يعيشون في بيئات تفتقر إلى المقومات الأساسية التي تساهم في بناء مجتمع سليم ومنتج، مثل عوامل الاستقرار الأسري والاكتفاء المادي والوعي الفكري. وقد لا تقدم هذه الروايات حلولاً ناجعة لهذه المشكلات، تاركة المجال للقارئ لأن يعمل فكره في اقتراح ما يراه مناسباً من حلول؛ إذ يرى مؤلفيها أنه عندما يتم تحديد مواضع الخلل وأسبابه، يصبح بإمكان الفكر الإنساني أن ينطلق ويبدع في ابتكار ما يلزم للقضاء على تلك المشكلات أو التقليل من أثارها بما يتناسب مع طبيعة المجتمع. وفي هذا السياق، تبرز رواية "حكايات الدرج" للروائي المبدع مجدي دعيبس، التي تدور أحداثها في فترة التسعينات من القرن الماضي في جبل الأشرفية في مدينة عمّان، وبالأخص في حي الأرمن، وقد صدرت هذه الرواية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 2019، وجاءت بحجم متوسط يتألف من 173 صفحة.
تركز الرواية على حكايات ثلاث صديقات قي المرحلة الدراسية الثانوية، وهنَّ نجوى وسحر وهبة، وتسرد كل واحدة منهن جوانب من حياتها اليومية بما فيها من تطلعات وصراعات داخلية وخارجية، خاصة تلك المرتبطة بأفراد العائلة. ويتشابك هذا السرد مع قصص الصديقات، كما يتداخل مع حكايات أكثر من ثلاثين شخصية مختلفة من سكان جبل الأشرفية. كما لا يغفل السرد وصف المكان ومعالمه البارزة التي تعيش فيها شخصيات الرواية أو تمر من خلالها، مثل درج حي الأرمن، وشوارع الأشرفية؛ مثل شارع بارطو، وشارع التاج، ومسجد أبو درويش، وكنيسة الأرمن، ومستشفى البشير، وحلويات مشوار وغيرها من الأماكن التي تعبر عن الذاكرة الجمعية لسكان جبل الأشرفية، بالإضافة إلى إبراز التعدد الاجتماعي والتعايش فيما بينهم في جبل الأشرفية، ومنها الثنائية الدينية، المتمثلة بالمسلم والمسيحي.
استخدم كاتب الرواية أسلوباً سردياً جذاباً يعتمد على تتابع سرد حكايات الصديقات ومن منظور مختلف؛ إذ لا تكمل نجوى سرد حكايات الحي وجبل الأشرفية ولا حتى قصتها مع والديها، ما يفسح المجال لشخصية أخرى، وهي سحر، لتتولى سرد أجزاء أخرى من هذه الحكايات وإضافة قصص أخرى، ثم تأتي هبّة لتختتم الحكايات مع تقديم تفسيرات أو تعليلات مختصرة للنهايات. يضيف هذا الأسلوب السردي بعداً تشويقياً على الرواية ويعكس بمهارة تداخل العلاقات الاجتماعية في فضاء الرواية، فالقصص لا تروي على نحو كامل، بل تترك مفتوحة لتفسيرات وآراء متعددة تعكس ما نشأت عليه شخصيات الرواية ورؤيتها الشخصية لدورها في الحياة وتطلعاتها المستقبلية، بيد أن هناك شخصيات تلجأ أحياناً إلى تحوير الحقيقة بما يخدم أهدافها الخاصة، وفي ذلك تقول نجوى: "النساء كائنات بسيطة معقدة في الوقت ذاته. يستخدمن التورية في شيء؛ في الأقوال وكذلك في الأفعال" (دعيبس،2019، ص 18).
تبدأ "حكايات الدرج" بحكاية نجوى التي تعرض معاناتها العائلية وتفاصيل حياتها في منزلها الكائن في منتصف درج الحي؛ إذ تقول نجوى في بداية سردها: "حي الأرمن في جبل الأشرفية، المكان الذي احتضن طفولتي وذكريات ما زلت كل يوم أتدرب على تذكرها حتى لا أنساها فهي كل ما تبقى لي. البيوت المتراصة وأحيانا المتراكمة توحي بحميمة ملهمة للرسامين والشعراء. أكثر شيء ملفت للنظر في حيّنا هو انعدام الخصوصية التي أصبحت ظلا هزيلا لفكرة كبيرة. تتكئ البيوت على بعضها البعض فتتصدع جدرانها أو تتقوس سطوحها، فكأنها مجموعة من الكهول الذين أثقلت عليهم الدنيا، فانحنت ظهورهم وكلحت وجوههم." (نفس المصدر، ص 6)، فمنذ أن تجاوزت نجوى مرحلة الطفولة القصيرة الخالية من التوترات، وجدت نفسها محاطة بجو مشحون بالخلافات والمشاجرات الليلية العنيفة بين والديها، وعلى خلاف المألوف، كانت والدتها هي المُعنِّفة، ما دفع نجوى إلى إظهار التعاطف مع والدها، فتقول: "أبي يُذبح كل يوم على عتبة الزوجية، ولا أجرؤ على مساعدته. ذات مرة حاولت منعها فسددت لكمة إلى عيني التي تورمت" (نفس المصدر، ص 11). يعود والد نجوى، الذي يحمل كنية "أبو حنّا الأرمني"، كل ليلة إلى بيته مخموراً، وتضربه زوجته ضرباً مبرحاً لذلك السبب، وهو لا يساهم أيضاً في مصاريف البيت، فما يجنيه من عمله في محله لتصليح الساعات بالكاد يكفي لشراء الكحول والسجائر، بينما والدتها، التي تعمل في الخياطة من المنزل، هي التي تؤمن احتياجات البيت.
ورغم عنف وقسوة أم نجوى، هي ماهرة في عملها في الخياطة، ما دفع نساء جبل الأشرفية إلى قصدها لخياطة احتياجاتهن.... بالإضافة إلى الثرثرة والنميمة، وتقول نجوى في ذلك: "النساء يجلبن أخبار الأشرفية ويتداولنها عند الخيّاطة التي تستمع بصمت إلى أحاديثهن" (نفس المصدر، 26). ومن هذه الأحاديث خرجت نجوى، الخجولة ذات الطابع العاطفي، ببعض الحكايات التي ترويها حسب منظورها الشخصي يلاحظ فيها مدى تمتعها بثقافة جيدة؛ فهي تحرص على قراءة الكتب والروايات، وكثيرا ما تستشهد بآراء الكتاب في تحليلها لنفسها وحكايات الآخرين. ومن هذه الحكايات، تبرز حكاية أبو صدام الذي أصابه الجنون إثر وفاة ابنه الوحيد بسبب رصاصة انطلقت خطأ من مسدس والده، وحكاية سامي وانتصار اللذين انفصلا تحت ضغط وإلحاح أم سامي بسبب عدم إنجاب الأطفال، وحكاية أبو كارلوس وعائلته، الذي عاد من الكويت خالي الوفاض بعد أحداث الغزو قبل خمس سنوات، ثم يضطر للعمل في وظيفة لا تناسب مؤهلاته وخبرته العملية، وحكاية أم حمدي مع معضلة زوج ابنتها الذي يرغب في الزواج مرة ثانية، وحكاية معلمة المدرسة القاسية المتجهمة، الأستاذة نادية، التي مضى بها قطار العمر دون زواج، بالإضافة إلى حكايات أخرى ترويها نجوى دون أن تكملها.
وينتقل مجدي دعيبس إلى سحر، التي تبدأ بسرد حكاياتها بعقد مقارنة بينها وبين نجوى من ناحية ما يظهر على وجهيهما، فسحر دائماً ما تبدو مبتسمة، بينما لا يكاد الحزن يفارق وجه نجوى. تثير هذه المقارنة فضول القارئ لاستكشاف حقيقة أعماق سحر وما تخفيه من حزن عن العيون، رغم أن سحر واضحة وقد حددت هدفها الأساسي في الحياة، وهو تكوين عائلة، لذا نجدها لا ترغب في مواصلة الدراسة ولا تحبها، وعلى نقيض صديقتيها. ومع ذلك، لا تستطيع سحر الخروج عن رغبة العائلة التي تطلب منها إنهاء دراستها الثانوية والالتحاق بالجامعة أو الكلية قبل الزواج، وتقول سحر في ذلك: "ما شأني بالحساب والجغرافيا والتاريخ والفاعل والمبتدأ والخبر؟... سأتزوج وأنجب الأطفال. هذا ما أريده من الدنيا. كيف سينفعني علم الجبر بتربية الأولاد أو بالاهتمام بزوجي؟ أليس هذا محيراً؟ لكن عليّ أن أجتازها في النهاية، كرهتها أم أحببتها، على أن أبذل جهدي وأنتهي منها. لا أومن بما تقوله هبة. بوابة المستقبل وطوق النجاة..". (نفس المصدر، ص69)
تدرك سحر أنها تمتلك ميزة بارزة تتمثل في قدرتها على قراءة الوجوه والإيماءات وحركات الأيدي والنظرات، أي قراءة لغة الجسد، وهذه المهارة، برأيها، تفوق في أهميتها مهارة إتقان اللغة الإنجليزية، التي لا تستوعبها ولا تسعى لفهمها، وفي المقابل، يجد شقيقها رامي ملاذه في هذه اللغة، فهو يسعى بكل ما أوتي من قوة وحيلة للوصول إلى أمريكا، التي يراها المكان الوحيد لتحقيق آماله وطموحاته، حاله في ذلك حال العديد من الشباب في مجتمعه. يتجاهل رامي نصائح والده التي تحثه على التخلي عن فكرة الهجرة بسبب ما يعرفه من قصص مأساوية للشباب الذين وصلوا إلى تلك البلاد، ولكن، يصرّ رامي على موقفه، إذ لا يجد فرصة مناسبة للعمل في بلده بعد حصوله على شهادة المحاسبة من الكلية منذ عامين، بينما لا يرغب في العمل بأي مهنة أخرى. يتمكن رامي وصديقه رأفت من الحصول على تأشيرة السفر إلى أمريكا، ويخفيان هذا الأمر عن عائلته، ولكن سحر تعرف هذا السر عن طريق الصدفة، دون أن تكشفه لأحد، لأنها تعرف أن أخاها مصمم على السفر، ولن يتراجع عن قراره، كما تعرف أن والدها لا يعرف كيف يتواصل مع ابنه ويقنعه دون أن يفرض رأيه عليه أو يتفهم قراره بالسفر ويساعده في ذلك، إلى أن تعود سحر ذات يوم إلى بيتها وتسمع عويل والدتها على وفاة رامي.
وعلى خلاف صديقتيها، نجوى وسحر، تبدأ هبة سردها، بتقديم فلسفتها وقناعتها بدور المرأة الأساسي في الحياة، فتقول: "نرفض أن نكون مواطنات من الدرجة الثانية في هذا الكوكب. بنات حواء يستحققن أفضل من هذا بكثير. هذا يلخص كل شيء. عليهم أن يفهموا هذا ويتقبّلوه جيداً" (نفس المصدر، ص 120)، بل تذهب بتفكيرها إلى أبعد من هذا، فتقول: "هناك مجتمعات كثير المرأة فيها هي الجنس المتسيّد.." (نفس المصدر، ص120). وتحدد هبة هدفها في الحياة، وهي أن تكمل دراستها الثانوية بتفوق وتصبح طبيبة، رغم ظروفها العائلية الصعبة، فأباها متقاعد بسبب الشلل، وأخاها يسير في طريق البلطجة وتعاطي المخدرات، وقد دخل السجن مراراً، بل وينتهي به المطاف ليصبح مروجاً للمخدرات ووسيطاً في تجارة الأعضاء؛ اذ يساعد رامي، شقيق سحر، في بيع كليته. ومع ذلك، تتعامل هبة مع الأزمة والعار الذي ألحقه بها شقيقها على نحو عقلاني ومحايد وتقدم تحليلاً واقعياً لهذا الوضع، فلا تنهار أو يعتريها الخزي، بل تقصي أخيها من حياتها. وتقول هبة: "أنا تعاملت مع الواقع بشكل مختلف. اعتبرت الأمر حادثاً اجتماعياً مثل أي حادث من أي نوع آخر. حوادث السيارات تنتج عنها إصابات ووفيات، والحوادث الاجتماعية ينجم عنها كائن غير قادر على الانسجام مع محيطه، فيسعى إلى تدميره وتقويض النظام الاجتماعي القائم..." (نفس المصدر، ص 151) ويلمس القارئ في سرد هبة مدى سعة ثقافتها وقوة منطقها، وهذا ما تقوله عنها صديقتها نجوى: "لديها وعي ومنطق اجتماعي وسياسي وثقافي واضح، حتى منطقها اللغوي مختلف، فهي تطوع اللغة ومفرداتها بأسلوب طريف لخدمة أفكارها وهواجسها"( نفس المصدر، ص 24)، وفي الوقت ذاته، قد يتجاوز ما تتمتع به هبة من وعي وقوة منطق وحجة ما هو متوقع من فتاة في السابعة عشرة من عمرها، رغم نهمها الكثير لقراءة الكتب، أي يمكن القول، أن ما تقدمه هبة من آراء وتحليلات وتفسيرات، ما هو إلا انعكاس لوعي ومنطق الكاتب نفسه إلى حد ما.
يأتي سرد نهايات الحكايات على لسان هبة، الشخصية المثقفة الواعية ذات المنطق، فتبدأ باستكمال قصة الأستاذة نادية الذي خذلها زوجها بعد شهرين من زواجهما؛ إذ سرق مالها وباع بيتها، ثم فر هارباً بمالها إلى بلده، ولكن كانت هبة على قناعة أن نادية ستتمكن من تجاوز المحنة وستبدأ حياتها من جديد وتعود للتدريس في المدرسة الثانوية، وهذا ما تحقق بالفعل. كما تتابع هبة سرد حكاية نجوى بعد أن قتل والدها والدتها أثناء دفاعه عن نفسه بعد أن كاد أن يُقتل على يدي زوجته نتيجة ضربها المبرح له، وذلك على مرأى من نجوى التي تصاب بصدمة نفسية جراء ذلك. وتستمر هبة في سرد نهايات الحكايات الأخرى، التي لم تكملها نجوى وسحر، وتقدم تفسيراتها لكل منها.
وفي الختام، نجحت رواية "حكايات الدرج" للروائي مجدي دعيبس من جعل القارئ يتفاعل مع خصوصيات الحياة وتحدياتها في جبل الأشرفية، وخاصة حي الأرمن، في حين لم تغفل الرواية سرد الجوانب الإيجابية في مجتمعها، مثل قوة العلاقات الاجتماعية والتعايش بين الثقافات المختلفة، كما اهتم الكاتب بوصف المكان ومعالمه البارزة التي جرت فيها أحداث الرواية في فترة التسعينات من القرن الماضي، تلك الفترة الزمنية التي شهدت أحداثاً سياسية هامة وتحولات اقتصادية كان لها أثراً واضحاً في تغيير نمط الحياة وبنية المجتمع المحلي. كما سلطت الرواية الضوء على السمات الاجتماعية والنفسية السلبية لبعض فئات المجتمع التي تعدّها سبباً في ظهور مشكلات مجتمعية خطيرة مثل العنف الأسري، الضغوط الاقتصادية، انحرافات الشباب، والتنميط الاجتماعي، وغيرها من المشكلات التي قد تبدو متخيلة للقارئ، لكنها تعكس الواقع وقسوته أو جانباً من قسوته الذي يغلب عليه الجانب المأساوي في نهايات بعض الحكايات، وفي هذا، تنقل إحدى شخصيات الرواية قولاً مأثوراً: "مهما جنح الخيال يظل الواقع أشد مرارة وغرابة" (نفس المصدر، 96)، وهذا يعكس عمق التحديات التي واجهتها شخصيات الرواية، وخاصة الشخصيات النسائية، دون أن تقدم الرواية حلول جاهزة، بل تركت الحرية للقارئ للتفكير في الحلول المناسبة.
المراجع:
- الحوتري، أسيد، "حكايات الدرج: رواية نِسويّة الهوية، إنسانية الهوى"، صحيفة نيسان الإلكترونية، 30/8/2022
- دعيبس، مجدي، " حكايات الدرج" بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، 2019
- المصري، وفيقة، "حكايات الدرج لمجدي دعيبس: التنميط الاجتماعي للنساء والرجال في المجتمع الأردني"، مجلة حبر الإلكترونية، 24/2/2021