كنت قد سبق أن قرأت كتاب "قصيدة النثر" لسوزان برنار منذ سنوات عديدة.. لكن وأثناء قراءتي كتاب "شعريات" لتزفيتان تودوروف وهو كتاب يتحدث عن الشعرية في النثر. وقد حدث أن أثار ذلك الكتاب بداخلي شعوراً ملزماً بالرجوع إلى هذا الكتاب.. فتركت "الشعريات" وعدت إلى هذا وما أن بدأت بإعادة القراءة حتى وجدت تلك القناعات التي كانت عندي في الشعر قد وجدت البذور التي نمت منها فيما بين صفحاته. لم يكن من بد أن تتحول هذه المراجعة إلى مقال في تطور الشعر.
منذ الأزل والشعر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالموسيقى، وكانت تلك المقولة "اللطيفة" أن الشعر لم يكن ليكتب إنما ليغنى. ومن هنا قد نجد ارتباطاً بين تطور الشعر وتطور الموسيقى، حتى نصل إلى الشعر الكلاسيكي والموجود في كل لغة تقريباً وهو المعروف بالشعر العروضي في القصيدة ذات الشطرين في اللغة العربية.
وكما هو الحال في كل شيء في هذه الدنيا نجد اليمين وهم المحافظون المتمسكون بالشكل التقليدي للشعر، وهناك اليسار وهم المحدثون الذين يطالبون بشكل جديد للشعر.
بدأت الحكاية مع حركات التراجم، فلم يكن من الممكن ألا تحدث تلك التراجم تأثيراً على الشعراء في كل مكان، حيث أنه من خصائص تراجم الشعر بالذات أن النص المترجم لا يلتزم بالقوانين العروضية للغة المترجمة إليها هذا على إعتبار أن الترجمة كانت ترجمة "محاكية" –وقد سبق أن تحدثنا في مقال سابق عنها- وهي الأغلب على حركات التراجم. لذا نلاحظ أن الشكل هو أول ما تأثر في حركة تطور الشعر العربي وذلك فيما يسمى بالشعر الحر، وهو يلتزم بالوزن العروضي إنما تخلى عن الشكل الشطري والقافية.
لكن الأمر لم يتوقف، واستمر تأثير التراجم حتى بدأت أشكال جديدة مشابهة جداً للشعر المترجم وقد تخلت تلك النصوص عن الوزن العروضي المقدس ! وهنا نلحظ ولادة ما يسمى بقصيدة النثر. وهنا أقتبس: "أخذت محاولات قصائد النثر الأولى الصالحة كلها من دون استثناء شكل تراجم حرة، بما أن مصطلح ترجمة قد أصبح حجة بالنسبة إلى ابتكارات الكاتب، وإنه يضيف نكهة غريبة إلى أصالات القافية والأسلوب." "قصيدة النثر" سوزان برنار. وكان قبل قصيدة النثر ما يسمى بالبالاد، وهو نثر مقفى يكتب على أسطر يشابه شكلاً الشعر الحر، ويصلح للغناء، وعرف بالغناء الشعبي في كثير من الشعوب واللغات.
يعتمد اليساريون في الشعر على منطق في ما معناه أن الموسيقى عالم كبير جداً. وذات أنواع لا تعد تناسب كل الأذواق، ومن غير الممكن أن نجد نوعاً واحداً يناسب كل البشرية. ولذا من البديهي هنا أن نتساءل: كيف لنوع واحد من الشعر يحتوي على نغمات معدودة لا تتجاوز بضع وعشرين نغمة أن ترضي ذوق الجميع؟ كيف لتلك النغمات القليلة التي يفرضها علينا العروض أن ترضي ذواتنا الموسيقية بشكل مطلق؟
وفي الواقع حتى اليسار منهم من يكتفي بالشكل كما في الشعر الحر، ومنهم من يذهب بعيداً جداً، كما في الحركة الدادائية وهي التي تقول خذ مقالاً من جريدة اليوم، ثم اقطع كل كلمة في المقال، وضعها في كيس ورجه جيداً، ثم انتقي منها عشوائياً وتلك هي القصيدة!
ونلاحظ أن قصيدة النثر والتي ألبست القوانين الثلاثة "الإيجاز، المجانية، والوحدة الموضوعية" لها أيضاً أشكال مختلفة فهناك قصيدة النثر التي كتبها لوتريامون وهي تختلف عما قدمه بودلير ورامبو، وليس بالضرورة أن تكون قصيدة النثر ملتزمة بتلك القوانين الثلاثة كما هو ملحوظ في قصائد من سبق ذكرهم إضافة إلى مالارميه بالطبع. وهنا أقتبس: "من المؤكد أن قصيدة النثر تحتوي على مبدأ فوضوي وهدام لأنها ولدت من تمرد على قوانين العروض وأحياناً على القوانين المعتادة للغة، بيد أن أي تمرد على القوانين القائمة سرعان ما يجد نفسه مكرهاً على تعويض هذه القوانين بأخرى، لئلا يصل إلى اللا عضوي واللا شكل إذا ما أراد عمل نتاج ناجح." "قصيدة النثر" سوزان برنار. هذا كلام طيب، لكن التسلسل التطوري يقول غير ذلك فتلك القوانين لم تكن ملزمة كما سبق أن أشرت.
إن فكرة تجديد الشعر كانت لغاية نبيلة، هي الغاية التي وجد من أجلها الشعر "عليه أن يرد إلى الكلمات سلطتها وقوتها الدالة وأن يجد لغة تلخص كل شيء: العطور والأصوات والألوان." "قصيدة النثر" سوزان برنار..
قد نحب الموسيقى الكلاسيكية، وفي ذات الوقت، نحب الروك أند رول، وقد نحب عبد الحليم وفي ذات الوقت تامر حسني! إن في اختلاف أذواق البشر ما يكفي أن يجعلهم يستمتعون بأكثر أنواع الموسيقى وأقدمها على الإطلاق، "الطبيعة" في زقزقة العصافير، وتلاطم الأمواج، تلك الفوضى الموسيقية في صخب العواصف، تلك الموسيقى التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تقييدها.
خلاصة القول: هل تلك الأشكال الجديدة شعر؟ كنتُ في السابق، أفكر كاليمينيين، وأجيب بلا. ولكنني اليوم أجد أنه من العبث مقاومة حركات التجديد، ولذا أجدني تحولت إلى اليسار. من المهم هنا، ألا ننسى تلك المقولة اللطيفة: "أن الأدب يميل للفوضى والنقد يميل للتنظيم". إذن فلنجعل الأدب يقوم بمهامه في إحداث الفوضى ثم فليقم النقاد فيما بعد في ترتيب تلك الفوضى كما يحلو لهم ولن يغير ذلك من الواقع في شيء ففي النهاية، لا بد مما ليس منه بد.