هناك جزء مخفي من الأمومة تحت جلود الأمهات. جزء يحمل التاريخ السري لشعورهن منذ اللحظة الأولى التي قررن فيها الإنجاب، وجلب قطعة من اللحم تحمل جيناتهن وتضمن لهن بقاء ذكراهن لأعوام أخرى بعد تركهن للحياة إلى لحظة اكتشافهن لشعور العداء الذي التصق بالرحم جوار نطفة أطفالهن.
الضحية المذنبة
كم الأمراض المحتمل حدوثها للأم لا تردعها عن محاولة حمل هذه الصفة، مما يجعلنا نرى التضحية التي تحملها، لكن إن تفحصنا كتب الطب إلى النهاية نجد الأمهات يحملن الأنانية في الوعاء ذاته، فكم مرض يمكن أن تنقله إلى جنينها؟
نَعْلَق هنا بين أمومتين أم بين أمومة واحدة تم عمل المونتاج الكافي لها؟
الحقيقة أنَّه صراع لا ينتهي بين الأم وما أنبته رحمها، صراع من أجل النجاة والبقاء على الأرجح لا ينتهي ولا ينتصر فيه طرفٌ على الآخر.
"هذا الصراع الذي يحدث على المستوى البيولوجي لا يمكن أن نتوقع اختفاءه من العلاقة بين الأم وطفلها بعد الولادة. إنه الصراع الذي قد يجعل في كل تضحية من الأم تجاه طفلها شعورًا ملتبسًا بالتهديد وفي كل ممارسة منها في حب ذاتها شعورًا بالذنب"
الصورة الذهنية في العقل الجمعي للأمومة تجعل من الأم كائنًا مخفيًا إلَّا من يديه، التي تقدم وتعطي، يد مانحة لا تنتظر مقابل، لا تصلح للأخذ، يد تربت، تُخيط، تُمَرّض، تهندم، ترتب، لا نتخيل أنها اليد نفسها التي قد تسلب الحياة، بهذا التصور نحشو الأحجار بين جلود الأمهات ولحمهن في مراسم إغراقهن ببحر الذنب الذي لن تنجو منه إحداهن مهما كانت ماهرة بالسباحة.
"الأم التي لا تشعر بالذنب تجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاك في لحظة الولادة وشق صدرها، استأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشر، حرّرها من هويّتها السابقة وشفاها من العدمية أو الطموح، تمامًا كما يحدث مع الأنبياء في عملية تجهيزهم للنبوّة"
لا يمكن للأم أيُّ أم إلَّا أن تشعر بالذنب، مهما فعلت فهي موسومة بالتقصير. على الصعيد الداخلي تشعر أنها مقصرة في حق نفسها إن أمضت الأيام تقوم بدورها المرسوم لكل أنثى أخرى، لا يُتَوقع منها إلا العناية والاهتمام فتصيبها العدمية وتشعر بالتخلي عن ذاتها، أو على الضفة الأخرى يقتلها الذنب إن منحت لنفسها الحق لأن تكون إنسانًا. يرى ذاته، يعطيها ويمنحها المحبة والوقت.
لكن هل الشعور بالذنب الذي يفتك بالأمهات منبعه فكرة تقسيم الوقت بين الأولاد وأنفسهن فقط!
في الحقيقة الأمر أعقد من هذا، فكل أم تبحث عن ورقة التعليمات لتتعامل مع الكائن الصغير، هنا تجد نفسها أمام مفترق طرق، بتلقائية شديدة تعود الأمهات للنموذج الأول اللواتي يعرفنه، أمهاتهن، المرجعية الأولى للأمومة هي البنوة بشكلٍ أو بآخر، الطريق الثاني هو الوضع الراهن، أنها أصبحت أمًا. مع هذا يبقى الطريق الأول الأكثر وضوحًا إمَّا في التصرف مثله أو تجنبه نهائيًا.
"إذا كانت أمك بالغة الحنان فربما تريدين أن تكوني مثلها وربما تشعرين بالذنب لأنك لا تستطيعين ذلك. إذا كنت مشروع أمك الأول الذي استثمرت فيه كل ما تملك لتكوني كما تريد فقد تكررين نفس الاستثمار مع طفلك، أو قد تراقبين نفسك حتى لا تعذبيه ‑أنت التي تعذبتِ‑ لتتحرري من طموحات أمك"
تحدثت مرسال عن اللواتي لا يملكن صورة لبنوتهن، سواء لموت الأم أو لغيابها بشكل آخر، ما ترك حالة من الضياع والتساؤل، صورة ثابتة لا تملك الكاتبة ناحيتها سوى الحياد.
عبء آخر للأمومة
تكتشف الكاتبة مرض طفلها بالاكتئاب وتعرف أنها ربما تكون سببًا رئيسًا بمعاناته، يُطرح الصراع بتجلٍ من جديد، تُصارع طفولتها ونفسها لأنَّها سبب في ألمه، بينما يصارعها طفلها بشكل لا واعٍ لأنه يحمل جزءًا منها، يرهقه ويسلبه الحياة.
كما يضع العقل الجمعي حجر آخر في بطن الأم والذي في الغالب يكون الأخير قبل الغرق النهائي في الذنب المميت، عندما يأتي القدر بإعلان غير عادل من منظور الأم. موت طفلها، الذي لا يكبر في عينيها أبدًا. هنا تتوقف حياتها لأنَّ القطعة التي خرجت منها قبل أعوامٍ مغطاة بالتراب الآن ووحش الذنب يخبرها بعجزها، لا يمكنها إنقاذ جزء منها إذن فلن تعيش.
"لقد مات لجدتي أحباء آخرون قبل أمي، على الأقل والدها ووالدتها، ولكن ظل موت أمي وكأنه الموت الأول لها. الموت الأول لكائنٍ خرج من رحمها، ومن المفترض ألَّا يموت قبلها"
فموت الأم هو العدالة من وجهة نظرها، أمَّا إن حدث ومات طفلها فهنا الفشل وهنا العقوبة.
"لقد راعتني أن تصف كاتبة أمريكية رحلة حدادها بعد أن قُتلت ابنتها ذات السبع عشرة عامًا في رحلة مدرسية، بأن حدادها شعور لا نهائي بالذنب: في نهاية الأمر، مهمة الأم، المهمة الفريدة والأساسية لكل أم، هي الحفاظ على أولادها أحياء"
ينبت سؤال في قلبي، هل يمكننا المغفرة للأمهات؟ وهل يهبط ملاك ينزع من قلبهن الشعور بالذنب، الذي ربما هو السور الذي يقف بيننا والغفران!
لا يمكننا سوى الاستسلام للتجربة، اللتي نختبر فيها أنفسنا وتختبر فيها الحياة صدق أقوالنا باعتبارها أقسى مفتش عن الحقيقة.