في البدء، لم تكن الكيمياء علماً قائماً على التجربة، بل كانت ضرباً من التأمل الفلسفي، مشوبةً بلونٍ من السحر، مغلفةً بأسئلة الإنسان عن الوجود والمادة والتحول انت الحروف تنقش على ألواح الطين، لا لتُعلمنا المعادلات، بل لتسرد شغف الإنسان في تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، أو البحث عن إكسير الحياة في محابر الليل وصبر الأيام.
الكيمياء، كما نشأت في حضارات ما بين النهرين، ثم ازدهرت في مصر القديمة والهند والصين، لم تكن إلا سعيًا خفيًا خلف جوهر الأشياء. كان الكهنة والفلاسفة هم الكيميائيون الأوائل، يؤمنون أن كل مادة تحمل في باطنها سرًا، وكل تحول ليس فقط تغيراً في الشكل، بل في الروح والماهية ومن هنا جاء مصطلح "الخيمياء"، ذاك الفن الغامض الذي راود أحلام الإنسان قرونًا طويلة.
ومع إشراقة الحضارة الإسلامية، تبدلت الرؤية، لا لتُطفئ نار الحلم، بل لتؤطّره بمنهج. لقد جاء جابر بن حيان، لا كشاعرٍ في معمل، بل كمفكر يحمل بيده الموازين، ويقيس، ويحلل، و يكتب في مؤلفاته التي جاوزت المئات، وضع اللبنات الأولى لما نسميه اليوم "المنهج العلمي". علّمنا أن التجربة هي لغة المادة، وأن الصدفة لا تنبت علماً. كتب: "إن العلم ليس إلا نتائج عملية، ومَن لا يُجري تجاربه بنفسه لا يستحق أن يُدعى عالماً.
ثم جاء الرازي، الذي لم ينظر إلى المواد كمجرد أشياء، بل كمفاتيح لفهم الطبيعة والإنسان. ابتكر الأدوات، وميّز بين الحوامض والقواعد، وفصل المواد بطرق مبتكرة، ومن خلفهم أضاء ابن سينا الطريق، حين تحدث عن المادة والجوهر والعناصر، رابطاً الطب بالكيمياء والفكر بالحياة.
وبين القرون، تحولت الكيمياء من خيال إلى يقين، ومن رمز إلى رقم. دخلت أوروبا في عصر النهضة على وقع ترجمات العلماء المسلمين، لتنهض من جديد في القرن السابع عشر عبر أسماء مثل بويل ولافوازييه ودالتون. كل واحد منهم سحب الستار عن جانب من أسرار المادة: العناصر، الذرات، الجزيئات، التفاعلات… وكأن العالم كان يتنفس على إيقاع معادلة كونية لا يراها إلا من يتقن الإصغاء.
واليوم، تقف الكيمياء في قلب كل ما حولنا في جسد الإنسان حيث تعمل الإنزيمات كالعازفين في أوركسترا خفية، في الغذاء الذي نأكله، في الأدوية التي تنقذ الأرواح، في الطاقة التي تشغل المصانع، وحتى في المواد التي تُشكّل هواتفنا وشاشاتنا، لقد صارت الكيمياء لغة الأشياء، وسرَّ صيرورتها، وكأنها قد نضجت عبر الزمان لتخاطب العقل والوجدان معًا.
لكن الأجمل في مسيرة هذا العلم ليس فقط اكتشافاته، بل ذلك السؤال المتوهج الذي ما زال يُرافقه: كيف يمكن لمادتين بسيطتين أن تُولّدا حياة؟، وكيف لتفاعل خفي أن يُغيّر مصير إنسان؟… أسئلة تفتح نوافذ على ما هو أعمق من العلم ذاته: على الإنسان الباحث، المتسائل، المُندهش.
لقد باتت الكيمياء اليوم مرآةً لاحتياجات العصر وتحدياته، فهي التي تقف خلف تطوير مواد صديقة للبيئة، وتحوّل النفايات إلى مصادر طاقة، وتمنح العلماء مفاتيح تصنيع أدوية دقيقة تستهدف الخلايا المريضة وحدها. بل إن الكيمياء باتت تقترب من عوالم الذكاء الاصطناعي، حيث تُستخدم خوارزميات التعلم الآلي لاكتشاف مركبات جديدة في مختبرات افتراضية، تختصر سنوات من البحث في أيام. هي ليست فقط علم الماضي، بل أفق المستقبل، تتسلل إلى كل حقل، من الفضاء إلى أعماق المحيطات، ومن الدماغ البشري إلى قلب النجوم.
لعل الكيمياء في جوهرها ليست إلا حواراً بين الإنسان والكون، بين العين التي ترى واليد التي تمس، بين المادة حين تسكن الصمت، والعقل حين يوقظها لتتكلم. إنّها كما قال بولينغ: "الكيمياء هي علم يربط بين العلوم، لأنها تفسّر ما لا يُرى بما يمكن لمسه."
وهكذا، تبقى الكيمياء، رغم دقتها، علماً يحمل في أعماقه خفقة الشعر. فمن بين أنابيب التجربة وكتب المعادلات، ينبثق صوتُ الإنسان وهو يهمس للوجود: "أخبرني، مما أنتَ مصنوع؟"
المصادر:
- جابر بن حيان، كتاب الرحمة
- الرازي، كتاب الأسرار
- Lavoisier, A. (1789). Traité Élémentaire de Chimie
- Atkins, P. (2007). The Periodic Kingdom