الأسئلةُ تُثير وتُثري؛ فلنطرح بعض الأسئلة: ما الرمز؟ وما العمَى؟ وما رمزية العمَى؟ فأمّا العمَى، فمن البداهة أنه نقيض الإبصار، والمعاجم تُعرِّف بالنقيض أحياناً، وبضدها تتبيَّن الأشياء، والعمى يرتبط بالبصر، الذي محلّه العين، وهو أن تتعطَّل وظيفة تلك الحاسّة، وفي لسان العرب أن العمى: "ذهاب البصر كله، وفي الأزهري: من العينين كلتيهما". [1]
وأمّا الرمز، فلغةً جاء في لسان العرب: "تصويت خفي باللسان كالهمس، ويكون تحريكَ الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إبانة بصوت إنما هو إشارة بالشفتين، وقيل: "الرمز إشارة وإيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم . والرمز في اللغة كل ما أشرت إليه مما يبان بلفظ بأي شيء أشرت إليه بيد أو بعين، ورمز يرمز ويرمز رمزاً". [2]
وقد ورد لفظ الرمز في القرآن، في قصّة زكرياءَ، في الآية (41) من سورة آل عمران: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [سورة آل عمران: 41].
وأما الرمز اصطلاحاً، فهذا يطول الحديث فيهِ؛ فهو مبحثٌ مُتشعِّب، ليس فقط من حيث وفرة تعريفات الرمز، بل أنواعه وأشكاله، ومع ذلك نسوق هذا التعريف ذا الطابع الشمولي، وهو أن الرمز: "تركيب لفظيٌّ أساسه الإيحاءعن طريق المشابهة بما لا يمكن تحديده، بحيث تتخطى عناصره اللفظية كل حدود التقرير، موحدة بين أمثاج الشعور والفكر". [3]
فأمّا رمزية العمى، فكأن يأتي العمَى لا يراد به العمى الحسي، وإنما العمى المعنوي، العمَى المُرتبط بالبصيرة، كما في قوله تعالى: {فَإنّهَا لا تَعْمَى الأَبصَارُ وَلَكنْ تَعْمَى القُلوبُ التي فِي الصُّدُور} [سورة الحج: 46].
يقول ابن كثير في تفسيره: "أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر".
وبهذا المعنى_غالباً يرد العمى في القرآن، كأن يُمثَّل بالفرق بين الأعمى والبصير على الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ۚ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة غافر: 58]، وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22) [سورة فاطر: 19 إلى 22].
من يُطالع الأدب العربي يجد أنّ ثمة فئةً من الأدباء العميان، منها الشّعراء، كالأعشى، وبشّار بن برد، والمعريِّ، والتطيلي الأعمى، والصريري، ومنها غيرهم كتاباً ونقاداً، كطه حسين، في العصر الحديث، (في هذا السياق تمكن العودة إلى كتاب لخازن عبود عنوانه العلماء والشعراء والأدباء العميان، في هذا الكتاب ما يزيد على 300 ترجمة).
هذا، وتقوم تجربة هؤلاءِ الشعراء العميان على مفارقة يمكن تسميتها: "بصيرة العميان"، وهي فكرةٌ عبّر عنها التطيلي في بيتٍ يقول:
فانظر بعقلك إنّ العين كاذبةٌ "" واسمع بقلبك إنّ السمعَ خوان"
فهو يوصي بــالعقلَ والقلب بديلاً عن "الحواس"، ومنها: العين والسمع، ومثل هذا ما أشار له نزار قباني في رثائه لطه حسين:
ارمِ نظّارتيكَ ما أنت أعمى... إنّما نحنُ جوقَة العميان
وهذه المفارقة كثيرة الورود في الشِّعر، شعر الحكمة حتى عند الشعراء المُبصرينفي إعلاءٍ للبصيرة على حساب البصر، كقول الشاعر:
القلب يُدرك ما لا العينُ تدركه... والحسنُ ما استحسنته النفسُ لا البصر
وكقول الآخر (ابن نعمة):
إنْ يُذهب الله من عينيَّ نورهما... فإنّ قلبي بصير ما به ضرر
أرى بقلبي دنيايَ وآخرتي... والقلب يُدرك ما لا يدرك البصر
ويُنسب للمعري:
سواد العين زاد سواد قلبي... ليتفقا على فهم الأمور
ومن طريف شعر العميان، وأشهره، أبيات بشار بن برد الجميلة في الغزل، والتي جعل فيها الأذنَ بديلاً عن العين في العشق، تُفضي إلى القلب بمحاسن الحبيب، يقول فيها:
يا قومُ أذني لبعض الحي عاشقةٌ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
ضمنَ رمزية العمَى أيضا، فإن للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي قصيدة يرد فيها السطر التالي (وقد كان هذا السطر هو الشّرارَة في كتابة هذا المقال): "القطط العمياء تلد القطط العمياء"
وعلى ذكر التّوارث، والشيء بالشيء يذكر، نستطرد قليلاً لنورد مقطعاً للشاعر الموريتاني محمد ولد الطالب، تتوارث فيهِ الخيول الحقدَ والثأرَ الذي يحمله أصحابُها، إمعاناً في تصوير تجذُّر ذلك الحقد في النفوس، يقول المقطع:
وأمشي إليك
وخلفي المجابة والصمت والبوحُ..
خلفي العشائر من نعراتٍ...
ومن نزواتٍ تدقُّ الطبولا
تُشيّد تاريخ حقدٍ وثأر
على قلقٍ...
تتوارثَ فيه الخيول الخيولا! [4]
رمزية العمى سرداً
كما في الشعر، يمكن أن نرصد رمزية العمى في السرد أيضا، ومن أمثلة ذلك مقطَعٌ من رواية "كلمة الله" للروائيِّ الأردني أيمن العتوم، والتي يعالج فيها قضايا تتعلَّق بالتعصب الديني، وهل التّعصب إلا عمى؟ عمى عن أن نُصبر الآخر، وإلا فكيف فات الأبَ المنظرُ الساحر، أليس لأنه كان غاضباً من ابنته التي أحبّت مُسلماً وأسلمت (كانت مسيحية)، بينما قُتل حبيبها على يدِ مُتعصّبين آخرين، لم يُعرَف هل هم مسلمون أغضبهم أنه فضّل الحوارَ سبيلاً لإقناع صديقه الملحد بالإسلام، أم مسيحيّون انتقموا لعائلة الحبيبة التي يرون أنه تسبب في ردتها، يقول المقطع:
"في فرجة الفضاء الواقعة بين تداخل جبلين شاهقين بدت قريتُها الحبيبة وقد طبعت الشمس قبلة أخيرة على خدها الناتئ المليء بالأشجار الهَرِمة، ضحكت طفولتها في أعماقها عندما خَلَبَ لبّها هذا المنظر الساحر، نظرت إلى أبيها فوجدته على عهده، بدا أنه يُحدِّق بعينين من زجاج إلى المشهد الماثل أمامهما معاً، وقد عبرتهما نسائم الغروب اللطيفة...
سمعت نفسها تهمس لها: «إذا كان المنظر يتبدى لنا جميعا بالكيفية نفسها، فلم يحركني حتى تضج به روحي، ثم لا يكون له التأثير ذاته على جاري، صمتت ثم أدركت البون الشاسع بين من ينظر بعيني قلبه ومَنْ ينظر بعيني رأسه". [5]
كما تملك الكاتبة الكويتية بُثينة العيسى روايةً عنوانُها: السندباد الأعمى، وفي هذا الرواية وُظّف العمَى توظيفاً فنياً خاصاً، حيث يحضُر في العنوان (السندباد الأعمى)، والتصدير (بيت التطيلي سالف الذكر)، والغلاف (مما عليه قطة غُطيت عيناها)، وهو يحضُر بقوة في المتن، فمن بين شخصيات الرواية هُريرَة عمياء، وهذه الهُريرة شديدة الشبه بصاحبتها "مناير"؛ فكلاهما "مسكينة" فقدت أمها، وكلاهما عمياء، هذه الأخيرة (أي مناير) عمياء؛ إذ لا تعي حقيقةَ ما حدث لأمّها!
وكذلك حال والدها "نواف"، الذي ربما كان هو السندباد الأعمى؛ فهو "لا يستطيع رؤيةَ شيء"، [6]، وبالخصوص ابنته، "لأنه داخل رأسه وفي رأسه غبشٌ كثيف". [٧]
حتى الراوي يتكشَّف أنّه ليس ذلك الرواي العليم، وأنه لا يملك معرفةً كاملة بالأحداث (مصير عامر مثلاً)؛ فتبقى بعض تفاصيل "عمياء" بما تكون معه النهاية مفتوحة!
ومن رمزية العمى أيضاً، نصُّ مقال للكاتب المصري أحمد خالد توفيق، عنوان المقال: "بلد العميان"، وهذا العنوان في الأصل عنوان رواية للكاتب "هربرت جورج ويلز"، روايةٌ جميلة، ثرية.
تدور أحداث الرواية حول وادٍ تعزله بعض الكوارث الطبيعية عن العالم، ومع الزمن يتفشّى فيه العمى، يأتي إلى هذا الوادي مُستكشف ضاع في رحلة كانَ يقوم بها، هذا المُستكشف صار "المُبصر الوحيد" هناك؛ لكنّه حين حاول إقناع ساكني الوادي بأنّ ثمةً عالماً، وحاول تسيير الأمور بمنطق "في أرض العمي يكون الأعور ملكاً" دخل في صراعٍ معهم سجنوه على إثره؛ ثم هرب. وحين عاد اشترطوا عليه أن يخضع لعلاج، لأن سبب أفعاله في نظرهم هو الشيء الغريب في جسمه، وهذا الشيء الغريب ليس إلا: "عينيه المُبصرتين".
ونورد من الرواية هذين المقطعين، مقطعها يُفسِّر كيف تحوّل ساكنو بلد العميان عمياناً، يقول: "وسط العدد القليل من سكان ذلك الوادي الذي أصبح معزولاً ومنسياً، دار المرض دورته. أصبح الكبار يتلمسون طريقهم ومصابين بعمى جزئي، والشباب يبصرون، ولكن برؤية غائمة، أما الأطفال الذين أنجبوهم فلم يبصروا على الإطلاق". [8]
والمقطع الآخر هو عن الحالة التي استقرّ عليها أمر "المبصر الوحيد"، بعد أن انهزم أمامَ العميان، وهو الذي ظنّ نفسه سيكون ملكاً، يقول:
"طوال الأسبوع السابق لموعد العملية التي هدفت إلى رفعه من منزلة التبعية والنقص إلى منزلة المواطن الأعمى، لم يذق نونيز طعم النوم، وخلال ساعات النهار الدافئة، بينما كان الآخرون ينامون هانئين، كان هو يجلس متفكرًا، أو يهيم على وجهه بلا هدف، محاولاً شحذ عقله للتعامل مع الأزمة التي كان يمر بها." [9]
وكأنَّ الكاتب الفائز بجائزة نوبل للآداب، البرتغالي جوزيه ساراماغو يُقدِّم تشخيصاً دقيقا لأزمة "المُبصر الوحيد"، كما حال "نونيز" في رواية "بلد العميان"، حيث يقول ساراماغو في روايته "العمى": "الأكثر رُعبًا من العمى، هو أن تكون الوحيد الذي يرى". [10]، وفي الرواية ذاتها: "إن العينين ليستا سوى عدستين، والعقل هو الذي يقوم بفعل الرؤية". [11]
ويمكن أن نُلحقَ برمزية العمى كذلك وهذه المرة في مجال الفلسفة والفكر ما ورد في الرسالة السابعة من "جمهورية إفلاطون"، والذي أراد به شرح فكرته عن "المُثُل"، على أنّ نصّه يطول.
فالعمى إذن، إنما هو عمى البصيرة، وبهذا نختم!
هوامش:
[1] ابن منظور: لسان العرب، مادة عمي، ج 9، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، 1999، ص 409.
[2] ابن منظور: لسان العرب، مادة رمز، ج 5، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، 1999، ص 312.
[3] محمد فتوح أحمد: الرمز والرمزية في الأدب المعاصر، دار المعارف، ط2، 1984، ص ٤١.
[4] محمد ولد الطالب: الليل والأرصفة (ديوان)، منشورات اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، ص 6.
[5] أيمن العتوم: كلمة الله، دار المعرفة للنشر والتوزيع، ط١، 2015، ص 196.
[6] بثينة العيسى: السندباد الأعمى، منشورات تكوين، الكويت، ط 2، 2021، ص 25.
[7] السندباد الأعمى، ص 22.
[8] هربرت جورج ويلز: بلد العميان، ترجمة لبنى أحمد نور، مؤسسة هنداوي سي أي سي، 2017، ص ٩.
[9] بلد العميان، ص 28.
[10] جوزيه ساراماغو: العمى، ترجمة محمد حبيب، دار المدى للثقافة والنشر، بيروت، ص .
[11] العمى، ص 67.