اللون الأسود ليس مجرد لون سلبي أو مجرد غياب للضوء، بل هو لون قوي ذو تأثيرات عميقة و يحمل بعد فلسفي وروحاني، وهو قادر على خلق عالم بصري متميز. كما أكد على ذلك "فنان اللون الأسود" وهو الفنان التشكيلي الفرنسي المعاصر بيار سولاج (Pierre Soulages)الذي ارتبط اسمه باللون الأسود.
"الأسود ليس لون غياب، بل هو حضور قوي" من أشهر مقولات سولاج حول اللون الأسود. فحضور هذا اللون في أعماله يحمل بعدًا روحيًا، يشبه إلى حد ما، استخدامه في الفن الكاليجرافي. فسولاج يرى النور من خلال السواد وهو يعتبره دافع للخلق والإبداع و رحلة لعالم النور. حيث يقول في هذا السياق "الأسود هو لون البدء والخلق، مثل الظلام الذي يسبق النور". فقد ابتكر سولاج مصطلح "Outrenoir" الذي يُترجم إلى كلمة"ما بعد الأسود" أو "فوق الأسود" خلال رحلته الفنية لوصف أسلوبه الفني، الذي يتجاوز مجرد استخدام اللون الأسود فقط. بل نلاحظ هنا، وجود علاقة خيالية ووجودية جمعت سولاج باللون الأسود، ترجمها عبر أعماله الفنية. فسولاج يعتبر هذا اللون رمزاً للحياة و نقطة الانطلاق، فهو لون يعطى مساحات لا متناهية. ويضيف سولاج عبر مقولته "الأسود عندي ليس لون الموت أو الحداد، بل هو لون الإمكانيات اللانهائية."
بيار سولاج هو الفنان التشكيلي الوحيد الذي حوَّل اللون الأسود من مجرد لون إلى تجربة بصرية وروحية و فلسفية. من خلال مصطلح "ما وراء اللون الأسود" أو "Outrenoir"، جعل هذا اللون ينبض بالحياة، محولًا إياه إلى فضاء من الإمكانيات اللامحدودة في الزمان و المكان، حيث تصبح اللوحة الفنية ليست مجرد سطحًا، بل عالمًا متبايناً من الضوء والظل. عند الفنان بيار سولاج، كما في تقاليد فكرية وفنية أخرى، يتحول اللون الأسود إلى وسيلة لاستكشاف أسئلة جوهرية عن الوجود، الإدراك، التمرد والإبداع… فاختيار سولاج للأسود كلون وحيد تقريبًا في أعماله، يُذكرنا بمقاومة الفن للزمن، كما نستنتج ذلك من مقولة أدورنو: "الفن الحقيقي هو الذي يصمد أمام التحلل". وبالتالي فهو يستمد من هذا اللون مفهوم المقاومة والخلود في الزمن، مثل مفهوم "الظلام" في الأساطير الكونية الذي يسبق الخلق. سولاج رأى في اللون الأسود غياب النهايات، بل امتداداً للوجود والروح "عندما يضيء الضوء على الأسود، يتحول إلى مرآة للروح.".
عادة ما يستخدم سولاج السكين والفرشاة لخلق نتوءات وأخاديد في الطلاء الأسود، مما يجعل الضوء يلعب على السطح بطريقة حية متغيرة حسب زاوية المشاهدة. في أعماله الفنية، يستخدم اللون الأسود بطبقات سميكة وحركات فرشاة ديناميكية ليعكس الضوء بطرق مختلفة، مما يخلق تأثيرات لونية غير متوقعة. وبالتالي يتفاعل المشاهد مع العمل بطريقة تفاعلية. اللون الأسود في أعمال سولاج، يعكس الضوء بطريقة غير مباشرة، مما يخلق حوارًا بين المادة واللامادة. هذا يذكرنا بفلسفة ميرلو- بونتي عن "الظاهر والمختفي" في الإدراك الحسي. مما يجعلنا أقرب إلى مفهوم "الظاهرة" عند الفينومينولوجيين. إن أعمال سولاج تُجبر المشاهد على الصمت البصري، مثل الموسيقى الساكنة لجون كيج. هنا يصبح اللون الأسود وسيلة لتجربة "اللاتحديد واللامتناهى". فاللون الأسود هو تعبير عن "حالة وجودية فلسفية." فهو ليس لوناً عادياً لدى الفنان سولاج، فهو يُقرأ كرفض للألوان التجارية السائدة، من خلال حوار خيالي بين الظهور والاختفاء واختزال الفن في جوهره المادي والروحي.