لقد كان عام 2024 عام غنياً وحافلاً بالكثير من الإنجازات العلمية، ولكن قد بزغ إنجاز منهم في كبد السماء ملوحاً من بعيد، مبشراً بعهد جديد في تاريخ علاج فيروس نقص المناعة البشرى، ذلك الفيروس الذي يُعد واحداً من أشرس الفيروسات التي شكلت تحدياً في شتى الأوساط الطبية، حيث قد أطاح هذا الفيروس بالعديد من الأفراد على مستوى العالم في معركة صُنفت بأنها غير منصفة ؛ ولكن قد ولَّى هذا العهد، فنحن على أعتاب عهد جديد في تاريخ علاج هذا الفيروس الشرس، عهد يشق فيه شعاع الأمل ظلمة الألم ويبددها؛ حيث قد أفصحت شركة جلياد العالمية للدواء عن ابتكارها لدواء يُدعى ليناكابفير والذي يُعد الأول من نوعه ،قادر على توسيع نطاق خيارات الأدوية أمام المرضى الذين طور الفيروس لديهم مقاومة للدواء؛ وبهذا الإنجاز نعيد فتح نافذة الحياة من جديد ليطل منها هؤلاء المرضى ، ولكن قبل أن أمضي قدماً في هذا المقال يطرح السؤال نفسه "ما هو فيروس نقص المناعة البشري وهل هو نفسه الإيدز؟" سنجيب عن هذا السؤال وسنوضح الكثير بشأن هذا الفيروس تِباعاً.
فيروس نقص المناعة البشري منه نوعين الأول والثاني، وهو فيروس يصيب الأفراد بأكثر من طريقة منها الدم، الجنس، ومن الأم لطفلها بصور متعددة. حينما يُصاب الفرد بهذا الفيروس تظهر عليه أعراض شبيهة لأعراض الإنفلونزا والمتمثلة في الحمى والصداع والتهاب الحلق والشعور بالإرهاق والطفح الجلدي وغيرها، وتستمر هذه الاعراض لبضعة أيام او عدة أسابيع، ثم ما تلبس أن تختفى لفترة تتراوح من عامين لخمسة عشر عاماً يُعتبر فيها الفرد حامل للفيروس وناقل له وربما يكون جاهل بذلك. يصيب الفيروس نوع من الخلايا الليمفاوية (cd4) ويتخذها مستضيف له يستغله لإتمام دورة حياته وتكاثره، حيث يقترب الفيروس من الخلية ويرتبط بها وسريعاً يخترق الفيروس جدار الخلية ويترك غلافه الخارجي بالخارج فتسبح القفيصة المخروطية التي تحتوي على المادة الوراثية في السيتوبلازم، ويقوم انزيم المنتسخة العكسية بتحويل المادة الوراثية للفيروس من صيغة ( RNA) لصيغة (DNA)وهذا عكس المعتاد في خلايانا ولذا يُسمى بالفيروس التقهقري، ثم تنزلق تلك القفيصة من إحدى مسام نواة الخلية وتطلق مادتها الوراثية داخل النواه، ثم ترتبط بالمادة الوراثية للخلية بفعل إنزيم (integrase) ويقوم بنسخ العديد من النسخ من (RNA) وكذلك إنتاج بروتينات لازمة له ومن ثم يطلقها للسيتوبلازم مرة أخرى ويخرج من الخلية فيروس جديد غير نامي ثم يقوم إنزيم (protease) بتكسير البورتينات فيه وإعادة ترتيبها من جديد ويتحول بهذا للشكل الناضج منه ويصبح قادراً على إلحاق الإصابة بالمزيد من الخلايا وتتكرر الدورة، وبعد أن تنهى الخلية الليمفاوية مهمتها كمستضيف للفيروس تُدمر .
هنا نجد علاقتين عكسيتين فعدد الفيروسات يزداد وعدد خلايا (cd4) يقل حتى يصل لأقل من مائتين وهنا يلج المريض في مرحلة الإيدز ويُصبح عرضة للافتراس من العديد من العدوى الانتهازية التي تستغل ضعف الجهاز المناعي وتصيب الفرد وتُلحق به الضرر، تلك العدوى التي ربما أن أصابت الفرد الطبيعي الصحيح لن تلحق به أي ضرر يُذكر أن أصابت مثيله المريض بالإيدز وتهدد حياته كذلك تستغل بعض السرطانات الوضع فتصيب الفرد مثل سرطان (Kaposi sarcoma) هكذا قد يصل الضرر للمريض حد الوفاة؛ وهنا نجد أن الفيروس بحد ذاته ليس المشكلة ولكن تطوره يُشكل الأزمة الحقيقية.
قد بذل الأطباء والعلماء جهوداً مستميتة محاولة الوصول لمضادات للفيروس وقد تكلل سعيهم بالنجاح؛ إذ صنعوا مضادات له او لنقل مثبطات لتكاثره وإيقاف دورة حياته لنكن اكثر دقة، تعمل هذه الأدوية على الأطوار المختلفة في دورة حياة الفيروس التي سبق وقد ذكرتها وتتداخل مع وظيفة تلك الإنزيمات الثلاث حيث أنها لا تقضي على الفيروس نهائياً ولكنها تحد من انتشاره بالقدر الذي لا يظهر في تحاليل الدم ولكنه لايزال موجوداً ولكن بنسب ضئيلة. هذه الأدوية موضوعة في خطة علاجية يومية شعارها الالتزام حيث لا يتمتع الفرد برفاهية ترك الدواء ولا ليوم واحد؛ لأنه بذلك يُمكن الفيروس منه مرة أخرى فيتكاثر بشدة ويطور طفرات جديدة في مادته الوراثية وبالتالي تقل حساسيته للدواء، وهنا تتقلص خيارات العلاج في وجه المريض، ويكمن المأزق الذي شكل تحدياً عظيماً لشتى الأوساط الطبية على مستوى العالم، كان الهدف من الأبحاث هو تقليل مقاومة الفيروس للأدوية وكذلك تحرير المرضى من قيود الخطة العلاجية اليومية المرهِقة في الالتزام، وقد كان السبق لشركة جلياد العالمية للدواء حيث توصلت لعقار (lenacapavir) الذي يحقق كلا الهدفين فهو يُعد عملة واحدة ذات وجهين، ولكن عام 2024 لم يكن مولد هذا العقار فقد وافقت منظمة الغذاء والدواء الامريكية على هذا العقار في عام 2022، ولكنه ظل قيد الدراسة فترة والذي جعل عام 2024 نافذة جديدة هو أن هذا العقار أثبت فاعلية تصل الى 100% في دراسة أُجريت على فتيات مراهقات ونساء، وليس هذا فحسب فبعد ثلاثة أشهر قد أثبت فاعلية تصل إلى 99,9% في دراسة أُجريت على رجال ونساء. لم تنتهى المفاجاءات بعد فقد بدأت دراسة على هذا العقار للاستخدام الوقائي ضد الفيروس وقد أظهرت نتائج مُرضية ولكنها لا زالت قيد البحث والتجربة. يعد عقار( lenacapavir) من فئة مثبطات القفيصة الذي يتداخل في دورة حياة الفيروس المبكرة والمتأخرة حيث يرتبط هذا الدواء مع بروتينات الغلاف المخروطي المُغلف للمادة الوراثية للفيروس ويجعله أكثر صلابة من ذي قبل فيقلل مرونته ويعيق انزلاقه خلال مسام نواة الخلية المستضيفة وإن حدث وتمكن الغلاف البروتيني المخروطي ذاك من غزو نواة الخلية فإن عقار (lenacapavir) يتداخل مع تركيب بروتينات الفيروس الجديد ويعيبه.
الاسم التجاري لعقار (lenacapavir) هو (sunlenca). يوجد الدواء في صورة أقراص تؤخذ عن طريق الفم وفي صورة محلول يُحقن تحت الجلد. يتم امتصاص الدواء ببطء وهذا كان له الفضل في كون الدواء طويل المفعول.
خطة بدء الدواء؛ في اليوم الأول والتاني تؤخذ جرعة 600 مللي جرام في اليوم الواحد عن طريق الفم، وفي اليوم الثامن تؤخذ جرعة 300 مللي جرام عن طريق الفم وفي اليوم الخامس عشر تؤخذ جرعة 927 مللي جرام حقناً تحت الجلد ومن تاريخ الحقن هذا بعد ستة أشهر إلا أسبوعين أو ستة أشهر وأسبوعين تؤخذ جرعة الحقن التالية وهكذا يؤخذ العقار بالإضافة لمضادات الفيروس التقهقرية الأخرى.
هنا أكون قد وصلت إلى نهاية مقالي هذا ولكن أود أن أنوه عن أهمية العلم؛ فالعلم رحلة طويلة لا تقتصر على التعليم في المدرسة والجامعة، العلم كالنهر الجاري يفيض بخيره على البشرية بأسرها.
لا تتردد في تحصيل العلم لأي سبب كان ، دع تلك التفاهات من وعيك وابدأ عهد جديد مع نفسك في تحصيل العلم النافع .أعلم أن ما يعيقنا أحياناً في تحصيل العلم هو رغبتنا الجارفة في إدراك كل العلوم وهذا يصعب ويعظم الأمر في أعيننا ولكن ابدأ في طرق بوابة واحدة من بوابات المعرفة وأصدقك القول أنك ستطرق بوابات أخرى تباعاً؛ وستتمنى لو يضاف عمراً إلى عمرك لتستأنف رحلة المعرفة التي بدأتها وتذكر دوما "العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها.. والجهل يهدم بيت العز والكرم".
المصادر
vhttps://arabic.rt.com/health/1583849-%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%A1-lenacapavir-%D9%8A%D9%88%D9%81%D8%B1-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%B7%D9%88%D9%8A%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AF-%D8%B6%D8%AF-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D9%86%D9%82%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9/
https://go.drugbank.com/drugs/DB15673https://go.drugbank.com/drugs/DB15673
https://clinicalinfo.hiv.gov/en/drugs/lenacapavir/patient
https://www.businesswire.com/news/home/20221221005541/en/https://www.businesswire.com/news/home/20221221005541/en/v
https://www-gilead-com.translate.goog/news/news-details/2022/sunlenca-lenacapavir-receives-fda-approval-as-a-first-in-class-twice-yearly-treatment-option-for-people-living-with-multi-drug-resistant-hiv?_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=tc
https://www.science.org/content/article/breakthrough-2024
https://www.msdmanuals.com/ar/home/%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8E%D8%AF%D9%88%D9%89/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%88%D9%89-%D8%A8%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8E%D9%88%D9%8E%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8E%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8E%D8%B4%D9%8E%D8%B1%D9%8A-hiv/%D8%B9%D8%AF%D9%88%D9%89-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8E%D9%88%D9%8E%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8E%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D9%91-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A-hiv#%D8%A2%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%88%D9%89-%D8%A8%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B3-HIV_v789289_ar