في عصر تتصدر فيه وسائل التواصل الاجتماعي المشهد اليومي لحياة الأفراد، أصبح للمشاهير والمؤثرين دور كبير في تشكيل وعي الجمهور وتوجيه أحلامه وطموحاته. ورغم أن هذه المنصات تتيح فرصاً للإلهام والتواصل، إلا أن الإفراط في عرض حياة مثالية أو مبالغ فيها، كثيراً ما تكون بعيدة عن الواقع، أوجد آثاراً عميقة – أغلبها سلبية -على فكر وسلوك المتابعين، لا سيما من فئة الشباب والنساء.
ومع تصاعد هذا النمط من المحتوى، لم يعد التأثير مقتصراً على الإعجاب أو الترفيه، بل امتد ليطال طريقة تفكيرنا، نظرتنا لذواتنا، وأحلامنا لمستقبلنا. فكيف سرق هؤلاء المؤثرون عقولنا؟ وما هي خدعة الرفاهية التي وقعنا في فخها؟
الرفاهية للهيمنة النفسية
يعرض العديد من المؤثرين يوميًا جوانب من حياتهم توحي بالكمال والرفاهية والسعادة الدائمة، من السفر المستمر إلى الأماكن الفاخرة، إلى المظاهر الجذابة والنجاحات المتتالية دون أي إشارات إلى التحديات أو الفشل. هذه الصورة، وإن كانت في كثير من الأحيان معدّلة أو منتقاة بعناية، تُقدم على أنها "واقع" يومي يبحث الجمهور عنه في واقعهم. ومع الوقت، يبدأ المتابعون بمقارنة حياتهم الحقيقية بهذه الحياة الرقمية، مما يخلق فجوة بين التوقعات والواقع، ويؤدي إلى مشاعر الإحباط، وفقدان الثقة بالنفس، والشعور بالنقص.
سرقة الانتباه.. ثم العقل
المؤثرون لا يبيعون فقط منتجات، بل يبيعون أسلوب حياة. وفي ظل هذا الزخم، تُسرق عقول المتابعين دون، فينصرف اهتمامهم من تطوير الذات وتحقيق أهداف واقعية إلى اللهاث خلف مظاهر زائفة. فجأة، يتحول النجاح إلى عدد متابعين، والسعادة إلى امتلاك اجهزة جديدة وتذاكر سفر وهدايا قيمة، والقيمة الذاتية إلى مظهر خارجي. ومع الوقت، يُعاد تشكيل أولويات المتلقي وقيمه دون أن يدرك ذلك، وعي كما حدث لإحداهن حينما أصبحت نسخة من إحدى المؤثرات في أسلوب الحديث واللبس بل أنها باتت تسعى الى تصوير حياتها اليومية على مدار اليوم حتى تحصد لقب مؤثر وتحظى بأكبر عدد متابعين!
حين يرى الشباب أن النجاح مرتبط بعدد المتابعين أو بنمط حياة استعراضي، قد تتحول طموحاتهم من تحقيق الذات إلى السعي وراء الشهرة السريعة، حتى وإن كانت خالية من القيمة أو المحتوى. هذا الانزياح من السعي إلى أهداف معرفية أو مهنية حقيقية إلى سعي وراء الظهور والقبول الرقمي يمكن أن يؤثر سلباً على جودة أحلام الأجيال القادمة، ويشوش رؤيتهم لمستقبل واقعي ومستدام.
اختلال في سلم القيم
الإفراط في تسليط الضوء على الماديات والمظاهر يؤدي تدريجياً إلى تراجع التقدير للقيم الحقيقية مثل الاجتهاد، والصدق، والتواضع، والمثابرة. وبدلاً من الاحتفاء بالنجاحات العلمية أو الاجتماعية أو الإنسانية، يتحول التركيز إلى ما يرتديه المشاهير ويحتفون به، أو ما يملكونه، أو عدد الإعجابات على منشور معين.
أحلام مستعارة ومستقبل مشوّه
أخطر ما في خدعة الرفاهية أنها تزرع أحلاماً لا تخصنا، وتدفعنا للسعي وراء ما لا نحتاجه. كثير من الشباب باتوا يحلمون بأن يكونوا "مؤثرين" لا لأنهم يمتلكون رسالة، بل لأنهم يريدون "الحياة" التي يرونها على الشاشة. وبهذا، تصبح القدوة ليست المعلم أو المفكر أو رائد الأعمال الحقيقي، بل صاحب الفلتر الأجمل والإعلان الأضخم والحياة الأجمل. إن هذا التحول يهدد بنشوء جيل تائه بين الطموحات الوهمية والواقع القاسي الذي لا يشبه ما يراه على شاشة هاتفه.
من المسؤول؟
المسؤولية مشتركة: المؤثر الذي يبيع الوهم بوعي، والمتابع الذي يستهلك دون وعي، والمنصات التي تروّج للأكثر لفتاً للانتباه على حساب الأصدق والأكثر نفعاً. كل طرف يشارك بطريقة ما في تكريس هذه الفقاعة الرقمية، التي كلما كبرت، ازدادت الفجوة بين الواقع والافتراض، بين ما نحن عليه وما نُجبر على الحلم به.
وعي رقمي ونماذج واقعية
أمام هذا التأثير المتزايد، تبرز الحاجة الملحة لتوعية الجمهور – وخاصة فئة الشباب – بالوعي الرقمي، وفهم أن ما يُعرض على الشاشات ليس دائماً مرآة للحقيقة. كما تزداد أهمية تقديم نماذج أكثر واقعية من المؤثرين، ممن يشاركون تجاربهم بنجاحاتها وتحدياتها، ويظهرون الجانب الإنساني والمعقول للحياة.
خدعة الرفاهية لم تعد مجرد محتوى ترفيهي، بل أصبحت تياراً ثقافياً يهدد توازن العقل الجمعي ويعيد برمجة أولويات المجتمعات. مواجهة هذا التأثير تبدأ من الوعي، من فلترة ما نراه، وإدراك أن خلف كل صورة مثالية قد تقبع حياة عادية أو حتى معاناة خفية. لنتوقف عن مقارنة حياتنا بحياة الآخرين، ولنسأل أنفسنا بصدق: ما الذي نريده نحن؟ لا ما يُراد لنا أن نريده.
في النهاية، لا يمكن إنكار تأثير المشاهير والمؤثرين على الثقافة المعاصرة، ولكن المسؤولية مشتركة – منهم ومن المتابعين – لضمان أن يكون هذا التأثير إيجابياً، واقعياً، ومحفزاً للنمو لا للتقليد الأعمى. علينا أن نعيد تعريف النجاح، ونحتفي بمن يسهمون في بناء المستقبل لا من يبيعون أوهامًا مغلفة بالتجميل الرقمي.