جوستاين غاردر هو روائي نرويجي من مواليد عام 1952 له 19 كتاباً ما بين مجموعة قصصية ورواية. أولها صدر عام 1986 وآخرها صدر عام 2016.
عالم صوفي هو الكتاب رقم 4 وأكثر أعماله شهرة على الإطلاق. صدر عام 1991.. وهي رواية تتحدث عن تاريخ الفلسفة. ولربما يثير القارىء وجود داروين وفرويد بين لائحة الفلاسفة الذي ناقش غاردر فكرهم رغم كونهم ليسوا بفلاسفة، ولي لذلك عودة.
إن هذه الرواية مثال خالص على استخدام الرواية كوسيلة تعليمية. وبنظرة إلى التاريخ الأسري للسيد غاردر نجده قد ولد لأب كان يعمل ناظراً لمدرسة، وأم كانت كاتبة لقصص وكتب الأطفال، ونجد في شخص جوستاين دمجاً جميلاً لكلا المهنتين: المعلم وكاتب كتب أطفال. قد لا تجذب هذه الرواية أولئك الذين ينشدون الرواية بشكل عام من أجل الحكاية، فالحكاية هنا هامشية أمام الموضوع التعليمي، ولربما تكون الحكاية هي مجرد مثال على بعض أفكار الموضوع التعليمي.
ولربما يخطر لنا السؤال الازلي: هل تستطيع الرواية التعليمية أن تكون بقوة الرواية السردية فنياً؟ والجواب يظل دوماً: لا، إن استخدام الرواية من أجل التعليم سينجح تعليمياً لكنه سيضعف الرواية فنياً بكل تأكيد، ويتضح لنا هذا جلياً هنا حيث تبدو الحكاية هامشية تماماً أمام الموضوع التعليمي لهذه الرواية ألا وهو الفلسفة. لقد نجحت هذه الرواية نجاحاً مدوياً وترجمت لـ 60 لغة. مما دفع بغاردر لإطلاق جائزة أطلق عليها اسم صوفي، للتطوير البيئي حيث عرف غاردر بنشاطاته الحامية للبيئة وقد أطلقت الجائزة عام 1997 وتوقفت عام 2013 بسبب نقص التمويل، حيث بلغت قيمة الجائزة مائة ألف دولار أمريكي.
إن القارىء سيلحظ حتماً ذلك الأسلوب المقارب تماماً لكتب الأطفال، هو في الواقع ليس للأطفال تماماً إنما لمن هم في سن بطلتي الرواية "صوفي" و"هيلد" 14-15 عاماً. لكنها رغم ذلك تصلح كمقدمة وخلاصة لكل تاريخ الفكر-الفلسفة التي عرفها الإنسان.
ترتكز الرواية على محور حكاية صوفي ومعلم الفلسفة التي يأتيها فجأة قبيل عيد ميلادها الـ 15 ليعطيها حلقات من الدروس عن تاريخ الفلسفة منذ بداياتها فيما قبل سقراط إلى العصر الحديث. وبينما تكون هذه هي الحكاية المحورية تدخل إلى الواجهة حكاية هيلد الصبية المماثلة لعمر صوفي، والتي يحدث أن تندمج حكايتها مع حكاية صوفي بالضبط عند الوصول للفيلسوف بيركلي، في تجسيد ومثال عملي لفكره الفلسفي. ولربما يحضرني هنا بعض الاقتباسات لأفكار مشابهة في الأدب:
إن الحياة أساساً لعبة من نوع ما، شرطها المسبق هو أن على لاعبيها ان يعانوا من فقدان الذاكرة، ثم يكون عليهم أن يتكيفوا بأفضل صورة تمكنهم مع سلسلة الإختيارات التي تعرض لهم على مدى ثلاثة أرباع قرن. وفي هذه الحالة يمكن ان نعتبر المجرمين هم الخاسرين، فهم الذين اختاروا أسوأ البدائل الممكنة، أما الرابحون فلا بد أن يكونوا أولئك الذين اقتربوا من الإنتصار على عادة "النسيان" التي نبدأ بها اللعبة. "الإنسان وقواه الخفية" - كولن ولسون.
وأيضاً:
وفي رواية "الغريب الغامض" طرح مارك توين تأكيداً مقلقاً يقول أن الله أرهقه أن يكون وحيداً في كون خال فخلق استعراض خيال الظل الذي ندعوه الحياة، حيث لا يوجد من هو حقيقي سواه هو، أما الآخرون فكائنات آلية، صنعت بحيث تبدو كالحية.
وأيضاً:
إن مؤسس علم العلم ل. روبن هابارد، يقول أن الناس آلهة اخترعوا العالم ليكون لعبة لهم، هبطوا إليها، ثم أصبحوا ضحايا فقدانهم ذاكرتهم، وهكذا وقعوا في فخ لعبتهم. "الإنسان وقواه الخفية" - كولن ولسون.
وهذا ما حاول غاردر أن يوصله في نهاية الأمر، ذلك الإيحاء بأننا قد نكون حلماً لكائنات أخرى، وكل حياتنا ومعارفنا وأشياءنا الثمينة ليست إلا وهم. وكم تبدو هذه فكرة مثيرةً للاهتمام.
ولنعد مرةً أخرى لداروين وفرويد. هم ليسوا فلاسفة لكن، لم يكن غاردر ليتجاهل ما وضعوه بين أيدينا والذي كان الأساس لفكر فلسفي مهم فيما بعدهما. وكما أشرتُ سابقاً: إن داروين وفرويد وسميث هم الأساس الذي بنيت عليه الحضارة الغربية. وفي حقيقة الأمر لقد أبدع غاردر بحق في تبسيط أفكار كل الفلاسفة من سقراط وما قبل سقراط إلى سارتر وما بعد سارتر. لا أعتقد أنه يمكن تبسيط الفلسفة أكثر مما فعله غاردر هنا.
بقي لي نقطة واحدة: في المشهد الأخير أي الحفل الفلسفي لصوفي وأستاذها، نجد صديقة صوفي جورون ذات الـ 15 عاماً تقوم فجأة فتقبل الشاب يورغن دون سابق إنذار، والأمر لا ينتهي هنا، بل إنهما ينشغلان عن الجميع في حمى كبيرة من القبل ثم ينقلبان تحت شجيرة المشمش بينما يراقبهم والد جورون قائلاً: إنه لا يمكن إيقاف الجنس. إن هذا مشهد معبر للغاية، إن جورون ما بين الطفلة والمرأة.. ولم يتحرج غاردر من تصوير هذا المشهد الذي هو أبعد ما يكون عن الطفولة. وفي الواقع، لا ذنب لغاردر في هذا إنما هو يصور لنا ما آلت إليه "حيونة الإنسان" كناتج لأعمال داورين الذي أثبت أصل الإنسان الحيواني وفرويد الذي شدد على ضرورة عدم كبت الغرائز الحيوانية التي تقود الإنسان وتشكل دوافعه الرئيسية لسلوكه. وفي واقع الحال، هذا الأخير، هو أحد الأخطاء الشائعة جداً في الفهم الشعبي لنظريات فرويد. لتكون النتيجة هي هذا المشهد. مشهد جورون الطفلة/المرأة تتجرع أولى جرعاتها من كأس الجنس.. فيعجبها. بينما ينظر إليها والدها من بعيد دون أن يملك أن يمنعها. إن كنا نعيش حلماً ما في خيال كائنات أخرى. قد تكون "عليا" فلمَ علينا كبت ما نكون عليه حقاً؟ مجرد حيوانات شرهة جنسياً. قد يكون من المؤسف أن تكون حضارة في مثل هذا الانحطاط هي الحضارة المسيطرة على هذا الكوكب البائس. لكن، هذا ما كان دوماً مع الحضارة التي يزدهر فيها العلم، مهما بلغ فيها الانحطاط الأخلاقي، فستسود. على أقل تقدير، إلى حين.
ثم يأتي بعد ذلك مسألة هروب صوفي وأستاذها في تأكيد على فكرة بيركلي.
الخلاصة، هي عمل أكثر من ممتازعلى أي حال، إنها من الكتب الي يتوجب قرائها في عمر ما. لكن، في سن أكبر من 14 عاماً بكل تأكيد.