الوقت، ذلك المفهوم الذي شغل الفلاسفة منذ القدم، يظل واحدًا من أكثر الموضوعات إثارة للتفكير في تاريخ الفلسفة. عند البوذيين والرواقيين، نجد نظرة عميقة للوقت لا تنفصل عن مفهوم الزهد والتعاطف مع الآخرين. فهل نحتاج إلى أقل لنعيش أكثر؟ وهل الفلسفة تجعلنا أكثر تعاطفًا مع الآخر؟ هذان السؤالان يشكلان محورًا رئيسيًا في فهم فلسفة الوقت عند هاتين المدرستين الفكريتين.
السؤال الأول: هل نحتاج إلى أقل لنعيش أكثر؟
الوقت ليس مجرد سلسلة من اللحظات المادية، بل هو تجربة روحية تعتمد على وعينا الداخلي. البوذية تعلمنا أن التعلق بالأشياء المادية هو مصدر المعاناة، وأن التحرر من هذا التعلق هو الطريق إلى السعادة الحقيقية. هنا، نجد فلسفة الزهد تتجلى بوضوح: نحن لا نحتاج إلى الكثير لنعيش حياة مليئة بالمعنى. بل على العكس، كلما قل تعلقنا بالماديات، كلما زادت قدرتنا على العيش بسلام داخلي. البوذية تدعونا إلى التركيز على اللحظة الحالية، لأن الماضي قد ولى والمستقبل لم يأتِ بعد. الوقت الحاضر هو كل ما نملك، والزهد هو الوسيلة لتكريس أنفسنا لهذه اللحظة.
أما الرواقيون، فينظرون إلى الوقت على أنه مورد محدود يجب استغلاله بحكمة. الرواقية تعلمنا أن السعادة تكمن في تقبل ما لا نستطيع تغييره والتركيز على ما نستطيع التحكم فيه. الزهد عند الرواقيين ليس مجرد تقليل للممتلكات، بل هو تقليل للرغبات التي تسبب لنا القلق والتوتر. بإمكاننا أن نعيش أكثر عندما نعيش ببساطة، ونركز على الفضائل الداخلية بدلًا من المكاسب الخارجية. الرواقيون يؤكدون أن الوقت الذي نقضيه في السعي وراء الماديات هو وقت ضائع، لأن السعادة الحقيقية تكمن في السلام الداخلي وليس في الثروة أو السلطة.
وهنا، أجد نفسي أتفق مع هذه النظرة، رغم أنني أرى الوقت محدودًا، إلا أنني أتعامل معه بمرونة. قد يكون التخلي عن الممتلكات أو الرغبات أمرًا صعبًا في البداية، بل وقد يسبب ضيقًا مؤقتًا، لكنني أتذكر دائمًا أن هذه الدنيا فانية، وأن تراكم الرغبات والممتلكات قد يسبب ضيقًا أشد على المدى البعيد. الزهد، إذن، ليس مجرد تقليل للماديات، بل هو تحرر من قيودها، وهو ما يجعلنا نعيش أكثر براحة ورضا.
السؤال الثاني: هل الفلسفة تجعلنا أكثر تعاطفًا مع الآخر؟
أما عن السؤال الثاني، وهو ما إذا كانت الفلسفة تجعلنا أكثر تعاطفًا مع الآخر، فإن الإجابة تكمن في جوهر الفلسفة ذاتها. الفلسفة ليست مجرد تفكير مجرد، بل هي أسلوب حياة يعلمنا كيف نتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين. البوذية، على سبيل المثال، تعلمنا أن كل الكائنات تتشارك في المعاناة، وأن التعاطف هو الوسيلة لتخفيف هذه المعاناة. عندما ندرك أن الآخرين يعانون كما نعاني، فإننا نطور شعورًا عميقًا بالتعاطف تجاههم.
أما بأسلوب الرافعي، فإن الفلسفة هي تلك النافذة التي نطل منها على قلوب الآخرين، فنرى فيها ما لا تراه العيون المجردة. الفلسفة، كما يقول الرافعي، هي "نور القلب الذي يضيء العقل"، وهي التي تجعلنا نرى في الآخرين جزءًا من أنفسنا. عندما نتعمق في الفلسفة، نكتشف أن التعاطف ليس مجرد شعور عابر، بل هو فضيلة تزرع فينا حبًا للآخرين يفوق حبنا لأنفسنا. الفلسفة تعلمنا أن ننظر إلى الآخرين بعين الرحمة، وأن نرى في معاناتهم صدى لمعاناتنا، وفي أفراحهم فرحًا لنا.
وأنا أرى أن التعاطف فطري في الإنسان، لكنه يحتاج إلى تنمية، وقد يتعرض للقتل بسبب مؤثرات خارجية أو داخلية. الفلسفة، بهذا المعنى، هي أداة لتنمية هذا التعاطف الفطري، فهي تعلمنا أن ننظر إلى الآخرين بعين الرحمة، وأن نرى في معاناتهم صدى لمعاناتنا، وفي أفراحهم فرحًا لنا. الفلسفة تجعلنا ندرك أننا جميعًا "مضغات" صغيرة في هذا الكون الواسع، ضعيفة لكنها قادرة على التعاطف والحب.
أصف نفسي بكلمة "مضغة"، لأنني أرى أن النفس البشرية ضعيفة لكنها قادرة على التحمل والنمو. هذه الكلمة تعبر عن طبيعتنا البشرية التي تتأرجح بين القوة والضعف، بين الرغبة في التملك والتحرر منها، وبين الأنانية والتعاطف. الفلسفة، سواء كانت شرقية أم غربية، تساعدنا على فهم هذه "المضغة" التي نحن عليها، وتعلمنا كيف نعيش بسلام مع أنفسنا ومع الآخرين.
في الختام، فلسفة الوقت عند البوذيين والرواقيين تعلمنا أن الحياة الحقيقية تكمن في اللحظة الحالية، وأن الزهد هو الوسيلة لتكريس أنفسنا لهذه اللحظة. كما أن الفلسفة، بتعليمها لنا التعاطف، تجعلنا أكثر إنسانية وأقرب إلى الآخرين. فهل نحتاج إلى أقل لنعيش أكثر؟ نعم، لأن الزهد يحررنا من قيود الماديات. وهل الفلسفة تجعلنا أكثر تعاطفًا؟ نعم، لأنها تعلمنا أن نرى في الآخرين جزءًا من أنفسنا.