بجانب النهر ولد الإنسان. على التراب وفي دائرة الهواء وبمحاذاة النار، ليدرك أنه بين عناصر الحياة؛ منها يحيا وبها يموت. وهذا ما جعل عناصر الحياة مصدر دراسات الإنسان واهتمامه. وبشتى الطرق حاول تفسير ماهيتها. ولأن لكل إنسان طرائق للتفسير وخيال خاص فقد اختلفت الدراسات، فهناك من درسها دراسة علمية تحليلة، وهناك من خصها بالأدب فأصبحت رمزية أدبية، وهناك من أخذها كدراسة فلسفية تأملية ليختلف التأمل والخيال مجدداً، فكانت المادة الحزينة والسعيدة، الغاضبة والهادئة، الحية والميتة. وتلك الحالات التي أخرجتها حلمية الإنسان بالتعاون مع الطبيعة المحيطة بالمادة أنتجت صورة الخيال المادي وتحليله النفسي الذي يشكل محور علم الجمال الأدبي، ذلك النهج الذي تبناه باشلار في دراسة المواد ومن ضمنها الماء، التي كانت موضع بحثه بعد النار في كتابه الثاني "الماء والأحلام".
إذن هو كتاب عن الأحلام. أحلام الإنسان الذي يخبرنا باشلار أنها تتخذ من العناصر الأربعة الدافع الرئيس للخيال. ومن تلك العناصر الماء التي تمثل حجر زاوية حياة الإنسان في واقعه قبل أحلامه. ولذلك تتخذ من رمزيتها المادية أشكالاً عديدة في أحلام الإنسان، يجمعها ويدرسها باشلار في نسقٍ بديع ويتخذ من الشعر برهاناً لإطروحتهِ ومحللٌ نفسي لحلاتِ الماء المختلفة. ذلك ما يثري الكتاب فنياً وأدبياً ويجعل من باشلار صاحب الأساليب الأكثر إبداعية في التحليل النفسي للمواد، فهو سيخطف أنظارك بكل سطرٍ ويدخلك إلى عالم من الأحلام لا ترغب بالخروج منه. فهو يبدأ بخفة مع المياه الرقراقة الربيعية، فترى نهراً جارٍ ونباتات تدني ظلالها على المياه النقية، وبجعات تمثل أنوثة الماء. نعم، تلك هي المياه الخفيفة في طبيعة يستحضرها باشلار على مرآتك كحلم كلاسيكي، هي كذلك إحدى حالات الماء حين تكون نقية، فأصبحت المرآة لنرجس وللحيوات كلها بجانبها لتكن نرجسية الماء أهم خصائصها، ولتأخذ أنوثتها وجمالها وصورتها المشرقة من البجعات.
وعلى الجهة المقابلة يصدمك باشلار بدراسة المياه العميقة الراكدة المعاكسة تماماً لحالة المياه السابقة، ما يبرز فطنته؛ فالمياه الربيعية الحية مصيرها الموت والركود عند الشاعر الذي لن يكتفي باشلار باقتباس وتحليل أشعاره، بل يتخذه كمرجعٍ أساسيّ لأطروحتهِ هنا، فكيف سيصور المياه الراكدة من غير أحلام يقظة إدغار بو الذي لم يرَ الماء إلا مياه ميتة؟ والمياه الحية ستموت لا محالة لإرتباط أحلام يقظة بو بالموت. ولمعاناته وذكراه مع الموت نسج من ذلك وحدةً حلمية قصها بشعرٍ ثري، ما ساعد على إدراك تنوع طبيعة المياه.
لا يقدم لنا باشلار النقيض الآن، بل يكمل بمحاور عديدة لماء الموت والألم من عقدة كارون والرهبة من ركوب البحر، هنا تقدم أشكال الموت من انتحار وغرقٍ ودفنٍ في المياه، وتتحول المادة من سر الحياة إلى سر الموت ومنبعه. وهكذا تجسد عقدة كارون وعقدة أوفيليا حالات موت المياه.
يعود باشلار إلى صور العناصر الأربعة ويحلل تأثير الماء بها وتأثيرها بالماء، بيد أن الماء أكثر العناصر انسجاماً مع العناصر الأخرى، الأمر الذي جعل باشلار سخياً بعرض المشهد العظيم الذي تقدمه العناصر الكبرى باتحادها. إنما هنا يشدد باشلار على استحالة اتحاد أكثر من عنصرين، فتلك الطبيعة حتى لو كانت خيالاً لا تضمن سوى تزاوج وانسجام عنصرين، وذلك يشكل مظاهر الطبيعة من طين وطمي وضباب ودخان. هي تلك الحالات التي تلهم وتشكل وجبة كبيرة من خيال الإنسان.
مع كل باب وموضوع ستشعر بألفة أكبر مع الماء. ستعتاد حالاتها وسيفتح لك باباً تطرق له باشلار سابقاً في مواضع عدة لارتباطه بشدة بحلمية الماء، ولكونه مركز الأساس لحلم اليقظة، ذلك إنه لن يرى الماء بدون تأثيره ولأنه يرى الماء بتأثيره. إنه باب أمومة المياه الأنثى. الأم التي يشعر الإنسان بأمومتها منذ أن يكون جنيناً، وبدون أن يدرك ترخي ظلالها على أحلام يقظته فتتحكم بها تحت طبقة الشعورية واللا شعورية. وهنا يكشف باشلار عن مرتكزات في حلم يقظة الماء، فنستنتج أن كل سائل قياساّ إلى الخيال المادي هو ماء وإن كل ما يجري على الأرض أيضاً ماء. وذلك مما يبرهن خيال الماء الأمومي، فحليب الأم سائل يجعل المخيلة تتخذ حليب الأم كرمزية أمومية للماء، فيصبح الماء حليب الأم المغذي لكل حيوات الطبيعة. ويكمل الكتاب مع خواص جديدة للماء، كالماء المطهر النقي الذي يطهر كل دنس والذي يمتاز بالحساسية، فالصفاء هو سلاحه الوحيد. وعلى خاصية النقاء يظهر الماء العذب ورمزيته في حلمية الإنسان، وذلك الفارق بينه وبين ماء البحر في خضوعهم لأشكال الخيال. وعلى أثر ماء البحر نجتمع بالماء العنيف، ومع علم النفس الحركي تفسر لنا ماهيات عنف الماء والحرب الحركية القائمة بينها وبين الإنسان ودور ذلك في حلمية الإنسان.
يودعنا الكتاب بعلم الصوتيات. وهنا عن كلام الماء وإيقاعه الذي ينتجه جريانه، تلك الموسيقى التي تشكل الخط المندفع غير المنقطع. وفي ذلك أهمية تأثير صوت المياه على حلمية الإنسان وإلهامه في موسيقاه.
هكذا قدم باشلار أحد أهم كتب علم نفس الجمال والخيال الشعري، وقد فتح من خلاله آفاقاً لا محدودة من الحلم البشري. فهنا لا ندرس الماء وحسب، بل ندرس معه كل من تأثر به وأثر به، وكل من يهتم بالمواد وتهمه. بيد أني رأيت باشلار الباحث والجامع والمفسر هنا أكثر منه الفيلسوف، فقد كان الكتاب أشبه بمختارات أدبية أضيف عليها تفسير فلسفي، حتى أن دور أبطاله بالكتاب ظهر أقوى من دوره. وإن كان كذلك فله الشكر.