تأسست مكتبة شومان في عام 1986، لتغدو منذ ذلك الحين علامة فارقة في المشهد الثقافي الأردني، بل وحجر زاوية فيه. من الجدير بالذكر أن هذه المؤسسة المعرفية انطلقت بعد عقد من إرساء البنك العربي لبذور ما نعرفه اليوم بمؤسسة عبد الحميد شومان، الذراع الثقافية والاجتماعية للبنك العربي. وعلى الرغم من هذا السبق والدور المحوري الذي تضطلع به المؤسسة الأم بتقديمها خدمات جليلة ومتنوعة تشمل البحث العلمي، وعروض السينما، والمنتديات الفكرية، والمنح الثقافية، يبدو لي أن المكتبة العامة، بطبيعتها، ابتلعت ما عداها، دون إرادة منها، فتلك طبيعة المكتبات الحقيقية، إذ إنها تتجاوز كونها مستودعات للكتب لتصبح نبضًا حيًا للمجتمع. فقد تستقطب فعاليات المؤسسة الأخرى النخبة المثقفة، لكن المكتبة تظل ببساطتها وعمقها، نقطة التقاء أوسع تحتضن شغف العامة بالمعرفة. وليس في هذا التمايز انتقاص من أي منهما، بل هو تجسيد لأدوار وأدوات تتكامل، ويسعى كل منها لإثراء النسيج الثقافي بطريقته الخاصة.
حكايتي هنا ليست استعراضًا لأنشطة المؤسسة المتعددة، فما أود الغوص فيه هو مفهوم "شومان كثقافة"؛ أي التأثير العميق الذي تحدثه مكتبة شومان العامة في تشكيل الوعي والذائقة الثقافية، انطلاقًا من تجربتي الشخصية على مدى الخمسة عشر عامًا الماضية كأحد أعضائها، حيث أستطيع القول إنني استهلكت فيها كمًا هائلاً من المعارف والآراء التي يصعب حصرها أو حتى تذكر تفاصيلها، لكنها بمجموعها ساهمت في صياغة ثقافتي وهويتي الفكرية. والأمر ذاته ينطبق على الكثيرين غيري، الذين سبقوني إلى عضوية هذه المكتبة لعقود أطول مما سمح به عمري. فاليوم، يفوق عدد أعضاء ومنتسبي المكتبة الستين ألفًا، منهم من ما زال وفيًا لزيارتها منذ كان مقرها المتواضع في شارع الثقافة، ومنهم من انقطعت صلته بها لأسباب شخصية. لكن يبقى الثابت أن كلا هذين النموذجين لا يمكنهما إنكار الدور المحوري الذي لعبته مكتبة شومان العامة في تشكيل بنيتهما الثقافية.
المكتبة العامة، على النقيض من دور النشر التجارية، هي مؤسسة غير ربحية بطبيعتها. بل يمكن القول، بمعايير الربح والخسارة المادية، إنها مؤسسة "خاسرة" بمعنى أنها تنفق بكرم ولا تطمع باسترداد ولو جزءاً من هذه النفقات بأي شكل، حتى إن رسوم اشتراكها الرمزية والبسيطة، التي لا تتجاوز عشرة دنانير، وتعطي للمشترك حق الاستفادة مدى الحياة، فردًا وعائلة، من مجموعة كبيرة جدًا من العناوين، هي محاولة بسيطة للحفاظ على ثروتها من الكتب، لا أكثر من ذلك.
ما فعلته شومان هو استثمار من نوع آخر، استثمار في ما لا يُرى بالعين المجردة، وفي ما يتجاوز حدود المال، استثمار أسمى وأهم: وهو الاستثمار في عقول الناس وفي ثقافتهم.
بالعودة إلى جوهر فكرتي عن "شومان كثقافة"، تكمن القوة الحقيقية للمكتبة العامة في قدرتها على استيعاب كنوز معرفية لا يمكن لدار نشر أو مكتبة ربحية أن تحتفظ بها. ببساطة، لا توجد قوة شرائية لدى الأفراد، خصوصا في بلدان العالم الثالث تغري أي مستثمر بعرض أكثر من ربع مليون كتاب على الرفوف وفي المستودعات، موزعة على ستة فروع في ثلاث محافظات. ولا يمكن لأي كيان تجاري أن يعرض مثل هذه التشكيلة الواسعة والمتنوعة من الكتب التي تغطي شتى مجالات المعرفة: العلوم، والسياسة، والاقتصاد، والتاريخ، والأدب بفروعه المختلفة طمعًا في أي عائد يتجاوز قيمتها الأصلية. وهنا يكمن الفرق الحقيقي وجوهر حديثي، شومان في الأردن ليست مجرد مرادف لكلمة "مكتبة عامة"، وهذا في حد ذاته شرف عظيم لها، بل هي، بما تقدمه من عناوين ثرية ومتنوعة، تقدم "ثقافة" من نوع فريد.
وهذه الخصوصية ليست بمعنى التفرد المطلق، بل هي خصوصية من نوع آخر، تشبه إلى حد كبير خصوصية الكائن البشري. فكل واحد منا ولد وترعرع في ظروف وبيئة وعوامل لا يمكن أن تتكرر لشخص آخر، حتى لأشقائه. وبالمثل، فإن المكتبات العامة، وإن اشتركت في بعض العناوين والموقع والظروف والعمر، لا يمكن أن تحتوي على ذات المجموعة الفريدة من الكتب. وهذا تحديدًا ما أقصده بـ "الثقافة" التي تقدمها شومان. فكما أن تجربة كل مستفيد فريدة بخصوصية المكان وتفاعلاته، فثقافة كل واحد منهم تتشكل من خياراته القرائية الفردية. ولا أظن أن احتمالات أن يقرأ زائرين الكتب أنفسهم تمامًا، على مدار عشر سنوات مثلًا، تتجاوز الواحد بالألف. ولكن كلا منهما يشتركان في شومان كمصدر للثقافة والمعرفة.
ختامًا، شومان ليست ثقافة واحدة جامدة، فتلك مهمة المدارس أو الجامعات، بينما المكتبة العامة ثقافات، كل يأخذ منها ما يريد، وتقدم لكل فرد ومستخدم ثقافة تخصه هو دون غيره، وتجمعه بها علاقة خاصة، لا يمكن لغيره ان ينالها، كنهر، يشرب منه الجميع ولا يشرب أي منهم، ما انتهله الآخرون، كما أنها وسيلة، بها تبني ثقافتك الخاصة، كما يبني غيرك، ما يخصه، وثقافتيكما اصلهما واحد، مثلما الطين أصل البشر.