حين كنت على مقاعد الدراسة في تخصص علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، كان أستاذي التونسي دوماً ما يستشهد بمثل ظريف وبسيط وذا أهمية مفصلية في فهم تطور منهجيات البحث ونظرياته، وذلك حين كنا نناقش ماركس وتبعاته الفكرية فيسأل: هل رأيتم يوماً "طبقة" تمشي في الشارع؟
تبعاً لهذا السؤال، نستنتج بداهة أن "الطبقة" شخصياً، لم تمشِ يوماً في الشارع كما هي، لكنها، للمفارقة، قد تظهر في كل إيماء وتفصيلة ملابس وطريقة مشي وتصميم مدخل وحديقة!
وهنا يحضرني ما أسمعه في السنوات الأخيرة من نقاشات كثيرة -أكاديمية وغير أكاديمية- حول تناول المدينة كموضوع للدراسة والتأمل والبحث والسؤال، ويمكن رصد انتشارها بأشكالها المختلفة: مقالات، بودكاست، أبحاث، أنشطة وتجوالات، وغير ذلك من مواد مقروءة وبصرية ومسموعة تتناول الموضوع من عدة زوايا وبوسائط مختلفة. فعلى الرغم من أننا لم نرَ يوماً "طبقة" تمشي في الشارع ، إلّا أنه لا يكاد يمر يوم لا نرى فيه مدننا!
ومع أن الأماكن والمدن وحركتنا فيها حاضرة كشرط أساسي قبلي لكل ما نقوم به في حيواتنا -إذ لا يمكننا أن نتحرك في الفراغ!- تتكاثر النقاشات حول أهمية المكان كموضوع لتناول الحقول المعرفية المختلفة ومساحات التأمل.. في حين تتجاذب الأطراف آراء متناقضة حوله، بوصف الدراسات المدينية "موضة" -برجوازية ربما لدى البعض- في حين يراها آخرون مرتكزاً رئيساً ويقفون على أهميتها في جل أعمالهم. فمن أين ظهر التوجه نحو الدراسات المكانية-المدينية ولأي غاية؟
أكاديمياً، يمكننا تتبع تصاعد الاهتمام بالدراسات المكانية كإحدى نتائج ثورة الدراسات النقدية التي ظهرت في الأعوام الخمسين الأخيرة في العالم، وفي العالم الشمالي لنكون أكثر دقة، بالترافق مع الموجات العالية التي واجهت العنصرية ضد السود والملونين تحديداً في الولايات المتحدة، بالإضافة للمد النسوي الذي أعاد نقد منظومات إنتاج المعرفة، كما ما يعرف بأزمة التمثيل "crisis of representation" التي نتجت من دراسات نقد الاستعمار، وسؤال "من له الحق في أن يمثل من؟"، من خلال إنتاجه البحثي؟ وبأي وسيلة؟
أين يقع الباحث من مسألة بحثه؟ وعلى أي مسافة يقف؟ وما شكل التفاعلات المباشرة بينه وبين هذه الظواهر والأفراد الذين يدورون في فلكها ضمن حيز مكاني واقعي وملموس؟
ترافق هذا مع أوجه النقد التي تناولت المناهج الكلاسيكية في العلوم الاجتماعية. إذ ومنذ بدء تبلور العلوم الاجتماعية، كان هناك محاولات كثيرة لضبط هذه العلوم وتأطير مناهجها. واهتمت بداية بموضوعات الدولة والدين كما مجالات أخرى قد تتناول موضوعات نفسية-اجتماعية تنامت بالارتباط مع تصاعد ثورة التحليل النفسي.
وعلى الرغم من محاولات تقعيد علم تجريبي قائم على الأنماط المنتشرة في المجتمعات الإنسانية، إلا أنّ العلوم الاجتماعية قد تغاضت بشكل كبير في بداياتها عن الظواهر المادية الملموسة كالمكان والعمارة والمدينة، والتي تعد الميدان الفعلي لتمظهر أي حدث أو ممارسة ترتبط بالظواهر المختلفة، كالدين والدولة والبنى النظرية المختلفة التي تؤطر حياة المجتمعات.
وهكذا، ربما نفهم، لم بدأت الاتجاهات الحديثة بنقد الاتجاهات الكلاسيكية التي تتعامل مع مفاهيم كلية دون تفحص أثرها ووقعها اليومي في الأجساد والأماكن التي تضمهما، مع أهمية العلاقة الجدلية التي تربطهم، فالمفهوم يضبط الملاحظة على الأرض، لتعود الملاحظة لتبني المفهوم بناء على وقائع الحياة اليومية في الأذهان، وهكذا دواليك..
أين تأتي المدينة من كل هذا؟
وفق هذا التقديم -الطويل قليلاً- يصبح من المخلّ النظر للمدينة بوصفها "موضة نظرية" جديدة.. فبنظرة مبسطة لجينالوجيا تأسس هذه الدراسات، يمكن فهم أنّ المكان يصبح حاضر كشاهد عيان ثالث على أي ظاهرة بحث، فالظاهرة موجودة في عقول الباحثين، في تمثّلات الناس وفهمهم لمعانيها، ولكنها تتجلى حقيقة في كل ظاهر وخفي في ممارسات الناس وحيواتهم وروتينهم وتفاعلاتهم. وهنا يصبح المكان شاهداً على صدقية التوافق بين الظاهرة المتواجدة في عقول الباحثين والناس وبين طرق تجليها في الحياة اليومية المعاشة، "فالأفعال أكثر صدقاً من الأقوال" كما نسمع دوماّ..
لا يقتصر دور الدراسات المكانية، والتي تهتم بالمحيط الذي يؤوي أكثر من نصف البشر اليوم، المدينة، على الوقوف كشاهد على اتساق النظرية مع الواقع، بل هي مفتاح للكشف عن كثير من "النقاط العمياء"، أي الظواهر، التي تلامس الواقع اليومي مباشرة، لكنها غير حاضرة بوضوح في أذهان طبقة المثقفين والباحثين، والتي لا يكشف عنها سوى التقصي المفتوح للأماكن وحركة الأجساد داخلها وأداءاتها "performativity" التي تعيد باستمرار صياغة المفاهيم النظرية من خلال تحويرات الحياة اليومية.
لا ينفي هذا، عدم وقوع الكثير من الدراسات المدينية في مآزق وأفخاخ كثيرة من وجهة نظري. من ذلك النظر للمدينة بوصفها بداية البحث وغايته ونهايته،ذلك محاطاً برمسنة المدينة وتمجيدها في بعض المواد التي يتم إنتاجها، أو رثاءها المستمر بوصفها تنسل من بين أيدينا أو حتى شيطنتها بوصفها تتضخم ككيان عضوي بشع، ذلك على حساب الوقائع التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تشكل المدن وتجعل تناولها على قدر من التبسيط، الرمسنة أو الاختزال. كما يقع آخرون في مآزق التماهي مع خطاب السلطة ذاته، الذي قام بتركيز الموارد في المراكز الحضرية على حساب الأطراف ونتج عنه اهتمام بالمدن وتهميش للأرياف والبادية والمدن الصغيرة. ويصبح هذا تناقضاً مع بنية الدراسات المكانية القائمة على تفكيك خطابات السلطة المهيمنة سواء كانت أكاديمية أو سياسية أو ثقافية أو سوى ذلك.
أخيراً، فإنني لا أفهم دراسة المدينة إلا بوصفها سعياً لأنسنة البحوث الاجتماعية النظرية والمجردة عن واقع الناس وهمومهم وانفعالاتهم، وهي بذات الوقت مدخل لتقديم وجهة نظر ومداخلات ضرورية في البنى والمفاهيم النظرية الكبرى: كالدولة والدين والمجتمع المدني والانتماءات وغيرها من ظواهر.
وربما، أيضاً، هي مساحة لفتح نافذة مما نحب في أنفسنا وفي أماكننا في بنى المعرفة التي لم تكن يوماً بعيدة عمّا نحب وأين نعيش، مهما ادّعت غير ذلك.