يعد القلق أحد الانفعالات الأساسية في التجربة الإنسانية، وهو استجابة عضوية ونفسية طبيعية تظهر عند التعرض لمواقف تنطوي على تهديد أو غموض، أو تتطلب استعدادًا خاصًا. وبالرغم من ارتباطه في كثير من الأحيان بمشاعر غير مريحة، فإن للقلق وظيفة بيولوجية هامة، تتمثل في تعزيز الانتباه، وتحفيز الجسم والعقل على مواجهة المواقف الضاغطة بكفاءة أكبر. وفي هذا الإطار، يُنظر إلى القلق باعتباره آلية دفاعية تساعد على التكيف، وهو جزء لا يتجزأ من منظومة البقاء.
مع ذلك، قد يتحول القلق من حالة مؤقتة ذات أثر تكيفي إلى حالة مزمنة تتسم بالمبالغة في الاستجابة للمنبهات، حتى وإن لم تكن تشكل خطرًا حقيقيًا. وفي هذه المرحلة، يُصنف القلق بوصفه اضطرابًا نفسيًا يتطلب تدخلاً علاجيًا، ويُعرف في التصنيف الطبي النفسي باسم اضطراب القلق المرضي (Pathological Anxiety Disorder).
يشمل هذا الاضطراب مجموعة من الأعراض النفسية والجسدية التي تؤثر في الأداء الوظيفي للفرد، وتُعيق قدرته على ممارسة حياته اليومية بصورة طبيعية.
يمكن تشبيه القلق المرضي بخلل في آلية دفاعية فطرية، شبيهة بحاستي الشم والتذوق. هاتان الحاستان – ورغم ارتباطهما غالبًا بالمتعة الحسية – تؤديان وظائف أساسية في حماية الكائن الحي من المواد الضارة، إذ تُمكّنان الإنسان من تمييز الطعام الفاسد أو الروائح التي تنذر بالخطر. وقد ساعدتا الإنسان البدائي في تجنّب السموم واختيار الغذاء الآمن. وبالمثل، يُعد القلق آلية تحذيرية نفسية، تُنبه الفرد إلى الأخطار المحتملة، وتُفعّل سلسلة من التفاعلات الكيميائية والعصبية لإعداده للهرب أو المواجهة.
على سبيل المثال، تخيّل شخصًا يسير في غابة مظلمة، ويسمع صوتًا مفاجئًا خلفه. سواء كان الصوت ناتجًا عن حيوان مفترس أو مجرد حركة عشوائية، فإن الدماغ يفسّره كتهديد محتمل، ويُطلق استجابة قلق تشمل إفراز الأدرينالين، وزيادة ضربات القلب، وتوسّع حدقة العين، تمهيدًا لاتخاذ رد فعل سريع. هذه الاستجابة قد تنقذ الحياة إذا كان التهديد حقيقيًا، أما إذا لم يكن كذلك، فإن “ثمناً” القلق لن يتجاوز استهلاك طاقة زائدة.
لكن ما يحدث في اضطراب القلق المرضي هو أن هذه الآلية الدفاعية تتنشّط دون وجود مبرر واضح، وبتكرار غير طبيعي، مما يؤدي إلى توتر دائم، وصعوبة في التركيز، واضطرابات في النوم، فضلاً عن ظهور أعراض جسدية متعددة. وتُشير الدراسات إلى أن هذا الاضطراب قد يبدأ في مرحلة الطفولة أو المراهقة، ويزداد مع تقدم العمر، ويبلغ ذروته في مراحل لاحقة من الحياة، خاصة في ظل غياب الدعم الاجتماعي أو وجود مشكلات صحية مرافقة.
من المظاهر الشائعة لهذا الاضطراب شعور الفرد بخوف مفرط من المجهول، أو قلق مستمر من الإصابة بأمراض خطيرة، رغم عدم وجود أدلة طبية كافية، وهو ما يُعرف بـ” القلق الصحي”. كما قد يصاحب القلق أعراضاً جسدية حقيقية مثل ألم الصدر، اضطرابات الجهاز الهضمي، أو ضيق التنفس، مما يزيد حيرة المريض، ويعزز دائرة القلق.
وتشير بعض الأبحاث الحديثة إلى وجود علاقة محتملة بين القلق المرضي وبعض الاضطرابات الجسدية المزمنة، ومنها العقم. فقد لوحظ أن ما يقارب 40% من النساء المصابات باضطراب القلق يعانين مشكلات في الخصوبة. يُعتقد أن الإجهاد النفسي المزمن يؤدي إلى اضطراب في توازن الهرمونات الجنسية، ويؤثر في الإباضة وجودة البويضات، كما قد يُضعف الاستجابة للعلاجات الهرمونية المستخدمة في برامج الإنجاب المساعد. ومع ذلك، لا تزال هذه العلاقة قيد الدراسة، وتحتاج إلى مزيد من البحث لتحديد طبيعة التأثير واتجاهه.
من الجدير بالذكر أن القلق لا يؤثر فقط على الصحة النفسية، بل يمتد تأثيره إلى الصحة الجسدية عبر آليات متعددة تشمل تنشيط الجهاز العصبي السمبثاوي، وزيادة مستويات الكورتيزول، مما قد يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، ضعف المناعة، اضطرابات الجهاز الهضمي، ومشكلات في النوم. ومن ثم، فإن التعامل مع اضطرابات القلق لا يُعد رفاهية نفسية، بل ضرورة صحية شاملة.
في ظل هذه المعطيات، تتعاظم الحاجة إلى فهم أعمق لهذا الاضطراب، ليس فقط من قِبل المتخصصين، بل أيضًا على المستوى المجتمعي. فالتوعية بالقلق المرضي ضرورية لكسر وصمة العار المرتبطة به، ولتشجيع الأفراد على طلب الدعم النفسي المتخصص. ويجب التأكيد على أن اضطرابات القلق ليست ضعفًا في الشخصية أو قلة إيمان، بل هي حالات طبية قابلة للتشخيص والعلاج.
تتضمن الاستراتيجيات العلاجية المتبعة حاليًا العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، وهو من أنجح الأساليب النفسية في تعديل الأفكار السلبية وتخفيف الأعراض. كما قد يُستعان بالأدوية المضادة للقلق مثل مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، إلى جانب تقنيات الاسترخاء، وتمارين التنفس العميق، والدعم الأسري والاجتماعي.
في آخر الأمر، يظل اضطراب القلق المرضي أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا وتعقيدًا في آنٍ واحد. ورغم الجهود العلمية المتواصلة لفهم آلياته وأسبابه، إلا أن التعامل معه بفعالية يتطلب تضافر الجهود بين الفرد، والمجتمع، والنظام الصحي. فكلما تقدمنا في فهم النفس البشرية وآلياتها الدفاعية، اقتربنا خطوة إضافية نحو تحقيق الصحة النفسية الشاملة، والتوازن الداخلي الذي يطمح إليه كل إنسان.
المصادر: