قبل أن تكون الحرية مسألة إنسانية أو مسألة دينية، متى تكون عبداً للحرية؟
ربما نستطيع حل هذا التساؤل.
علي عزت بيجوفيتش، في كتابه الأول، «هروبي الى الحرية» ومن واقع تجربته الخاصة، يرى أن الحرية مفهوم نسبي مقيد بالزمان والمكان، فيقول:
(عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية، وعندما تمرض في السجن لا تفكر بالحرية، وإنما بالصحة، إذن الصحة أهم من الحرية).
ولكن في اعتقادي أن السؤال الجوهري قبل كل هذا: هل الحرية مطلب حق أم أنها حق؟
ربما الإجابتان صحيحتان، ولكنهما مقيدتان بالزمان والمكان، على حسب مفهوم علي عزت بيجوفيتش.
فإذا كانت مطلبًا، فغالبًا الذين يطالبون بالحرية هم يمتلكونها، ولكنهم يريدون حرية خاصة، ليست عامة.
وهذا ما أثبته الفكر النسوي حين جرّد الحرية وطالب بها، ليصنع من المرأة عبدةً لأشخاص آخرين.
وهي حق، حين تكون عبدًا في زمان ومكان فُرض عليك أن تكون عبدًا فيه، بدون اختيارك الحر لها.
نعم، هناك من يختار العبودية بإرادة حرة، فالذين يطالبون بالحرية أحيانًا هم عبيد من تلقاء أنفسهم، كأنهم عبيد بالفطرة، إذ يشعرون بالشك من مطالبهم: هل تُقبل أم تُرفض؟ هل هي صحيحة أم خاطئة؟
ولكن أصحاب الحرية الحق لا يطالبون بها، لأن الحرية لا تُطلب بل تُنتزع انتزاعًا.
وهذا ما يجعلنا نطلق عليهم "عبيدًا ذو جودة عالية"، لأنهم لا يعرفون معنى الحرية، ولكنهم يهتفون بها، يكتبون عنها، يقاتلون من أجلها، ويموتون دونها.
فالإنسان هو من يصنع من نفسه عبدًا قبل أن يكون شيئًا آخر، فلا تسأل الأسياد عن عبيدهم، ولكن اسأل العبيد: من سيدهم؟
فالعبودية هي مهنة يمارسها الكثير من الناس، فالطغاة لا يصنعون العبيد، ولكن العبيد هم من يصنعون الطغاة.
لا يمكن أن نخضع الحرية لجعلها مسألة إنسانية، فهذه ما جعلت البشرية تفشل في صنع حرية إنسانية عبر التاريخ الطويل.
فالعبد، قبل أن يكون عبدًا للآخرين، هو عبد لنفسه، لرغباته وأطماعه، وعجز عن التحرر من العبودية للأصنام التي في داخله تنادي: "ما علمت لكم من إله غيري"، إذ جعلها تتماهى مع العبودية وتتأقلم معها، وكأنها قدرٌ مقدور لهم.
فهناك من يستحق الحرية، وهناك من لا يستحقها، وهناك من يريد الشعور بالحرية لا الحصول عليها؛ فالهدف السامي لديه هو نشوة السعي من أجل الحرية، لا الحرية كتجربة إنسانية يعيشها الفرد.
فهو يتنقل من مطلب إلى آخر؛ الحرية من أجل الحرية. إنها تجارة مربحة لتصنع منك بطلًا قوميًا في بعض الأحيان، حتى ولو لم تحصل عليها. وربما ينتهي بك المطاف أن تفارق الحياة وأنت في السجن.
أما صاحب الحرية الحقة، فيعلم أن الموت هو حرية من طراز رفيع، يرتقي به صاحبه وهو يدافع عن فكرة سامية، عتيقة، ذات معنى، فيتخلد اسمه، ولا يُذكر اسم الحرية إلا وهو معها.
فلنجعل الحرية مسألة دينية، ونطرحها على حسب فكرة المفكر عبدالوهاب المسيري، ونجعل لها نموذجًا تفسيريًا تاريخيًا: بلال بن رباح، حين فهم مفهوم العبودية والحرية.
فكانت الحرية شعورًا جوانيًا كامنًا داخل الإنسان، بغض النظر عن الزمان والمكان.
فكانت تجارب أمية بن خلف بلا جدوى من أن تقنع بلالًا بمفهوم الحرية أو العبودية، فتلخّص لبلال أن العبودية ليست قدرًا، إنما هي اختيار، وليست مسألة حلال أو حرام، أو زمان أو مكان، بقيد أو بدون قيد.
فرفض كل الإغراءات والعذاب، لأنه أيقن أن الحرية ليست إطلاق سراح فقط، إنما الحرية دين.