قرأت دراسة لمجموعة من الباحثين في جامعة تورينو، إيطاليا، حيث تعطى الفرصة فيها لثلاث مجموعات متماثلة من المشاركين، للمشاركة في مشاريع فردية أو جماعية، ويتم تحييد العوامل جميعهم في المجموعات الثلاثة باستثناء درجة التنافسية بين أفراد المجموعة ذاتها، بحيث تكون المجموعة الأولى بلا تنافسية -بمعنى أن الجميع فائزون- والمجموعة الثانية قليلة التنافسية -بمعنى أن هناك فائزاً أكبر وفائزون صغار- والأخيرة بتنافس عال؛ هناك فائزون وخاسرون. وقد انتهت الدراسة بأن تقوم المجموعة الأولى -غير التنافسية- بتحقيق أكبر مقدار من الربح لقدرة أفرادها على التعاون فيما بينهم. وأظهرت الدراسة أنه كلما ازدادت درجة التنافسية كلما ازدادت الأنانية والتركيز على العمل الفردي، وكلما قل ربح المجموعة ككل.[1]
تقدم هذه الدراسة إضاءة مهمة؛ حين يُدْفَع المشاركين للدخول في سباق التنافس مع أقرانهم ينتهي بهم الأمر خاسرين جميعاً، وذلك عن طريق تصميم التجربة بحيث يكون هناك "خاسر" و"فائز" في نهاية الأمر، لا أن يكون بإمكانهم جميعا الفوز. وفي الواقع، نستطيع أن نرى انعكاس ذلك في الأنظمة التي تُصممّ ليكون هناك فائزون وخاسرون، والأنظمة التي تضع بعين الاعتبار أن يربح الجميع. بحيث تعتمد الأولى على قيمة التنافسية، والأخيرة على قيمة التعاون، وأثبتت التجارب أن الأخيرة أكثر إنتاجية بالمجمل.[2]
حين أفاتح معتز بالموضوع، وهو مهندس أردني وصديق اعتاد العمل في السوق المحلي يقول: "كل شيء في الأردن تنافس، حتى قد يصل الأمر في البعض إلى التنافس مع أٌقاربهم وأفراد عائلتهم. لكن عند انفصالك عن السياق التنافسي –أثناء تجربة الغربة- تشعر مباشرة بالخطأ الذي كنت تعيشه؛ فقد كنت تؤمن أن فوز الآخرين مبني على خسارتك وفوزك مبني على خسارتهم، لكن هذا غير صحيح. كان بإمكاننا دائما أن نفوز معاً."
أكتب هذه المدونة، وأنا أتساءل مع أصدقائي: معتز وبترا وعائشة وبراء: ما دور نظامنا التعليمي في التنشئة على النزعة التنافسية التي تصل ذروتها في امتحان الثانوية العامة (التوجيهي)؟ وكيف صنع التركيز على قيمة التنافس فائزين بلا جائزة؟ إذ إن الصناعة والحضارة والازدهار تعتمد على "قيمة التعاون" في الأساس. وماذا ضيعنا بخسارة تحقيق معادلة صحيحة بين القيمتين؟ وكيف يقع أبناؤنا ضحية السباق المفرغ ذاته؟
الوصمة
"قيمتك تساوي معدّلك"
تقول بترا، واصفة الطريقة التي يتم بها التعامل مع نتائج الثانوية العامة (التوجيهي. وتزيد بأن الفرق الأوضح في العلاقات بين الطلاب في أثناء دراستها بالأردن ودراستها في الولايات المتحدة هو الطبيعة الهرمية التي تصنّف بها المنظمة التعليمية الطلاب في الأردن. فهناك الأوائل في رأس الهرم. وهناك "الفاشلون" في قاعة. تقول بترا: "تشعر أنك ستضيع ويضيع مستقبلك إن لم تكن في رأس الهرم. يذكّرني ذلك بحجة قد سمعتها كثيراً في أيام الجامعة: وهو أن النظام الهرمي والتنافسية الحادة تحفز الطلبة على بذل جهدهم، وترفع مستواهم بشكل عام. لكن التجربة الحقيقة والملاحظة تجعلنا نرى أن الكثيرين يحدث لديهم رد فعل عكسي، وشعور باللامبالاة ناتج من انعدام التقدير والوصمة السلبية التي تلتصق بهم بسبب درجاتهم. هؤلاء يشكلون ضحايا النظام الهرمي الذي لا يراعي الجميع".
اللامبالاة، رد الفعل العكسي
تقول صديقتي براء، وهي من المتفوقين أكاديميا طوال حياتها والأولى على كلية الهندسة في الجامعة الأردنية لخريجي عام 2019: "إن لم تكن ماهراً في المواد كلهم يتم تثبيطك، التشجيع محصور على فئة قليلة من القادرين على تحصيل علامات في المواد كلهم."
أما عائشة، فتقول: "التوجيهي عقبة. ويجعلك تفقد الأمل رغم أنه كان خطوة صغيرة، ويجب ألا ننظر إليه كشيء عظيم. فالتوجيهي يجعل هدفك هو العلامة، وليس المستقبل الواسع الذي ينتظرنا بعده." وتكمل: "إذا كانت درجاتك منخفضة، فأنت غبي، لا تصلح، وليس هناك فائدة من المحاولة." واصفة الطريقة التي يُتَعَامَل بها مع الطلاب، حين تكون درجاتهم منخفضة، "وقد كنتُ منهم لفترة"، تضيف. تقول عائشة، أن الطريقة التي تقيّم وتعامل بها الطالب تقوده لأن يصدّق بأن هذه حقا قيمته، وأن ينظر إلى نفسه من خلالها.
بينما نرى العديد من الطلاب الأردنيين قد اتخذوا اللامبالاة كطريقتهم في رفض الواقع، وعدم الدخول في السباق من أساسه وقبول الجلوس في قاع الهرم وفقدانهم الدافع. تقول براء بأسف: "كتير ناس كانوا رح يكونون ناجحين وماهرين بصنعتهم لولا سوء التوجيه وعدم تقدير المهارات الفردية والتركيز عوضاً عن ذلك على أن يمتلك الجميع نفس التوجه والمهارة." أُفكّر. هل نلوم المؤسسات التعليمية وحدها عن تمكين هذا النظام الهرمي وتأثيره السلبي على الطلاب؟ ما العوامل الأخرى؟ وما دور المحيطين بنا؟
ضغط المجتمع، ابتداء من العائلة الصغيرة، للأقارب، ثم لمن تبقى.
تنبّه براء عن نقطة هامة حين تقول: "كان الأقارب يسألون إن كنتُ لا أزال الأولى، وقد كان هذا السؤال يشعرني بالمسؤولية؛ وبأنني يجب أن أظل الأولى. أشعر أنه لولا دفع واهتمام من حولي، لما اهتممت بالأمر." وتضيف:" النظام التعليمي لا يحقق الأهداف التي وضع لها لمساعدة الشخص على إيجاد نفسه. واتخاذ قراره. المجتمع ينظر إلى النظام التعليمي على أساس "البرستيج" لا بناء الإنسان. "وتذكر لي أيضا قصة أستاذ أخبرهم أنه يتمنى أن يتخرجوا بتخصصات محترمة. مما دفع إحدى الطالبات للاعتراض وسؤاله عن معنى "تخصص محترم"؟ وإن كانت جامعاتنا تدرّس تخصصات "غير محترمة"!؟". تقول براء عن آثار هذا الضغط: "السعي لإرضاء المجتمع يجبرك على تغيير نفسك والدخول بدوامات لا علاقة لها بالتعليم". فإلى أين تنتهي بنا هذه الدوامات؟ وأي واقع ينتظرنا حين ننهي تعليمنا، وننتقل إلى سوق العمل؟
واقع سوق العمل الأردني-نظرة خاطفة
تعلمنا العديد من الأبحاث المعنية بنظرية الترابط الاجتماعي أن البيئة المبنية على التعاون لا التنافس، لا تكون أكثر إنتاجية فحسب، بل تساهم في تعزيز الذكاء الاجتماعي للأفراد وارتفاع مستويات الصحة النفسية بشكل ظاهر. [1] فكيف تمتد آثار البيئة التنافسية الحادة إلى ما بعد التخرّج؟
أعود إلى براء، فتشير إلى أنها، وبعد عدة تجارب مريرة، بدأت ترى أن سوق العمل الأردني بعيد البعد كله عن البيئة الصحية أو البيئة المشجعة على النمو، فحسب ملاحظتها: "كل شخص يفكر في مصلحته الخاصة، الموظف يريد الراتب بأقل جهد وصاحب العمل يريد للموظف أن ينجز بأقل مردود. مما يجعل الجميع متأخراً وخاسراً." وتضيف: "فيما يخص بيئة العمل، فحين يكون هناك مجال للتطور في الوظيفة وقتها لن يتورع زملاء العمل عن تثبيط وإيذاء بعضهم البعض ونقل الكلام السيء عن أقرانهم، من أجل الترفع. "وكأن عقلية "كي أفوز على أحدهم أن يخسر"، تنتقل من مقاعد الدراسة إلى الوظيفة. ويؤكد لي معتز أنه عايش مشكلة التنافسية المؤذية في عمله كمهندس في سوق العمل الأردني. يقول: "في الأردن يستحي الموظف من خطئه، ويحاول إخفاءه؛ لأنه قد يُعايَر به. لكن الخطأ في الواقع ليس شيئاً مشيناً، بل هو نداء للآخرين لمساعدتك على إصلاح المشكلة. وهكذا يُنْجَز العمل بأقل أخطاء ممكنة."
لكن لماذا؟
سألت براء وبترا ومعتز وعائشة لماذا؟ لتطفو بعض الإجابات على السطح، بدءاً من النظام التعليمي ذاته، إلى الوضع الاقتصادي، وانتهاء بالوعي.
النظام التعليمي ذاته
تقول بترا، منذ اللحظة التي يتم فيها قبولك بالجامعة، فأنت تُقبَل على أساس رقم، ليس على الإنسان الذي كونته في سنوات دراستك. وتصف بترا هوس التصنيف ووضع أناس فوق أناس في نظامنا التعليمي بقولها أنه في أثناء دراستها في الأردن كان الجميع يهتم بأن يعرف درجاته ودرجات الآخرين، وكانت الدرجات تعتبر شيئاً علنياً، وليس أمراً خاصاً. وكانت معرفة الدرجات هذه تساهم في تصنيف الطلاب ضمن قوالب جاهزة. أمّا في جامعة هيوستن حيث أكملت دراستها، فلم يكن هناك أي أحد يعرف درجات الآخرين، مما ساهم بشكل فعّال برفع ذلك الضغط الاجتماعي، ولم يكن أحد يهتم بأن يعرف درجتك أصلاً، والأساتذة لا يفاضلون بين الطلبة؛ مما ساهم في خلق جو من الأريحية والتعاون، فكان الجميع يساعدون بعضهم البعض.
يعلّق معتز من جهته على فرق آخر وهو بأن العمل الجماعي، وليس الفردي هو السائد في الجامعات والنظام التعليمي في السويد، فحتى الامتحانات ذاتها تكون جماعية، ومقابلات العمل في السويد كان يهتم فيها أصحاب العمل بقدرتك على التعاون ضمن فريق، وإنجازك في بناء جسور للتواصل مع آخرين، وليس بطولاتك الفردية. فنظام التعليم والعمل نظام متكامل يفهم أهمية قيمة التعاون في النجاح.
تشير بترا إلى نقطة أخرى كانت فارقة في مسيرتها الدراسية هناك، وهي الاحترام الكبير من الأساتذة للطلاب في جامعة هيوستن، إذا أنهم يتركون لهم استقلالهم الفكري وحريتهم في العمل على مشاريعهم، مما يدفع الجميع لبذل مجهود إضافي لشعورهم بالحماس للعمل بالطريقة والشكل الذي يقتنعون به. وهو ما رأته عائشة في نظامهم البريطاني أيضاً، إذ إن المنهج متغير، وللطالب والأستاذ الحرية في العمل في النطاق الذي يثير اهتمامهم. فالامتحانات ليست نموذجاً موحداً يُفرَض على الجميع، ولكن مشاريع فردية وجماعية فيها مساحة واسعة من الحرية والمراعاة للفروقات الفردية.
وبرغم أهمية النظام التعليمي، إلا أن براء وبترا يرون أن الوضع الاقتصادي أيضا يؤدي دوراً حاسماً -وإن كان خفياً- في كل ما يحصل.
الوضع الاقتصادي
تقول بترا: "الجميع في جامعة هيوستن يعلم أنه سيجد وظيفة بعد التخرج، شيء يجعل الضغط أو التنافسية الحادة منعدمة بين الطلاب، أما في الجامعة الأردنية، فكنت أشعر أنني إن لم أكن من أفضل الطلاب؛ فلن أجد وظيفة، وسأكون فاشلة في الحياة." وتقول براء مؤكدة: "المعظم هنا لديه التزامات مالية، والوظائف قليلة، مما يجعل صراع الأردني لإيجاد وظيفة والحصول عليها صراع بقاء قد يدفعه لسلوكيات غير أخلاقية، فالتنافس مع قلة الفرص تظهر أبشع ما في الإنسان، لكن وظيفة الدولة والمؤسسات محاولة إخراج أفضل ما فيك لا العكس." فالسياق الاقتصادي قد يضعك في خيارات مربكة، وقد يمضي إلى داخلك، يملأك بالخوف ويساهم في عرقلة نموك الداخلي، فيحجب قدرتك على رؤية الصورة الكاملة. العامل الذي يأخذنا إلى النقطة الأخيرة التي سنتناولها في هذا المقال؛ وهي الوعي.
الوعي
"السبب الرئيسي الذي يجعلك تظن أن نجاح الآخر خسارة لك هو ضيق الأفق. حين تكون منفتحا ستعرف أن السباق ليس بينك وبين زملاء صفك. فالعالم واسع وكبير ونحن زملاء على بداية الطريق. العلم أبعد من العلامة، وليس له نهاية. ضيق الأفق هو ما يحبسنا في عالم صغير نتنافس به مع رفاقنا!."
تقول عائشة، وتضيف: "فكرة العلم مش علامة. لكن تطوير ذاتك. الوعي الذاتي أهم شيء. في الأردن بحسه شبه معدوم. الوعي الذاتي بأني يجب أن أستفيد كشخص. وأن الجامعة يجب أن تنمو فيها كشخص. في الجامعة كنا نفرح إذا لم يأت الدكتور؛ لأننا سنأخذ استراحة! وذلك بسبب قلة وعينا." شيء توافق عليه براء، وتقول أن نظامنا التعليمي لم يساعدنا على فهم أنفسنا أو التعامل مع العالم الواقعي بتحدياته، بل قد يلهينا عما نحتاج معرفته من أجل مستقبلنا.
يصف معتز أثر نظامنا التعليمي عليه بأنه عمل على برمجة عقله بحيث تكون الدرجة هي غايته، دون أن يشعر! ويذكر أنه حين انتقل إلى الدراسة في السويد كان يجد صعوبة في القيام بالكثير من الواجبات؛ لأنها لم تكن تدخل في التقييم، فكان عليه إعادة برمجة نفسه بحيث يصير هدفه العلم الحقيقي لا الدرجات، حتى يتمكن من التأقلم مع زملائه. يتساءل معتز: "ما هو الهدف من التعليم في بلادنا؟" وتتساءل هذه المقالة معه:
ما هو الهدف من هذا التركيز على التنافسية؟
هل تسحبنا سياقات اقتصادية واجتماعية وغيرها إلى هذا التنافس الفارغ؟
ألم يكن بالإمكان معالجة هذه السياقات بطرق أكثر فعالية؟
وما الذي خسرناه وسنخسره بتنشئة أولادنا وإعادة إدخالهم في سباقات عبثية وغير عادلة؟