هو الشاعر العباسي العظيم أبو الطيب أحمد ابن الحسين ولد سنة ست وثلاثمئة ولقب بأمير الشعراء، اشتهر بفطنته وذكائه منذ نعومة أظفاره إذ قد نظم أول أشعاره وهو يبلغ التاسعة من عمره، اشتهر بالحكمة وعزة النفس والكبرياء والسعي والمثابرة لأن يكون أفضل شاعر في القرن الرابع الهجري، وقد بدا ذلك جليا في شعره فهو الذي قال:
أَينَ فَضلي إِذا قَنِعتُ مِنَ الدَهـ رِ بِعَيشٍ مُعَجَّلِ التَنكيدِ
ضاقَ صَدري، وَطالَ في طَلَبِ الرزق قِيامي، وَقَلَّ عَنهُ قُعودي
أَبَداً أَقطَعُ البِلادَ، وَنَجمي في نُحوسٍ وَهِمَّتي في سُعودِ
وَلَعَلّي مُؤَمِّلٌ بَعضَ ما أبلغ بِاللُطفِ مِن عَزيزٍ حَميدِ
مناسبة أشهر قصائد
للمتنبي العديد من القصائد المشهورة التي ما برحت بعض أبياتها من أن تتداول على ألسنة الناس من غير معرفة قائلها، ومنها ما قيل معاتبةً لسيف الدولة الحمداني الذي ما انفكّ عن إكرام المتنبي على مدحه له في مجلسه إلى أن عكر الحاسدون صفو ماء هذه العلاقة، وأخذوا يتحدثون عن المتنبي بما ليس فيه من مناقص وأن غيره أولى منه بالمال الذي يجازى به حتى أورد ذلك سيف الدولة مورد تصغير المتنبي وإمساك يده عن إعطاءه فقال المتنبي، قصيدته المشهورة التي مطلعها:
واحرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أُكَتِّمُ حُبًّا قَد بَرى جَسَدي
وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدَولَةِ الأمَمُ
إن كانَ يَجمَعُنا حبٌّ لِغُرَّتِهِ
فليتَ أنَّا بِقَدْرِ الحبِّ نَقتسِمُ
اشتهرت العديد من الأبيات للمتنبي التي تتصف بالحكمة، وتظهر جليًا فلسفته الحياتية، فمن أشهر أبياته:
وَلَقَد رَأَيتُ الحادِثاتِ فَلا أَرى
يَقَقاً يُميتُ وَلا سَواداً يَعصِمُ
وَالهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً
وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ، وَيُهرِمُ
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى
حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ
وَمِنَ البَليَّةِ عَذلُ مَن لا يَرعَوي
عَن غَيِّهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ
والذي يُظهِرُ في الذَليلِ مَوَدَّةً
وَأَوَدُّ مِنهُ لِمَن يَوَدُّ الأَرقَمُ
وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنالُكَ نَفعُهُ
وَمِنَ الصَداقَةِ ما يَضُرُّ وَيُؤلِم
بالرغم من اشتهار هذه الأبيات بوصفها شعرًا ينم على الحكمة إلا أن معظم الناس يجهلون مناسبتها، إذ كانت بالأصل هجاءً لإبراهيم ابن كيغلغ، وقد ذكر المتنبي مناسبته ذلك، فقال في سياق هذه الحكاية أنه في سنة ست وثلاثين وثلاثمئة، انطلق من مدينة الرملة متوجهاً إلى أنطاكية، فمرّ بمدينة طرابلس، حيث كان يقيم إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ، وكان رجلاً جاهلاً. وكان يجالسه ثلاثة رجال من بني حيدرة، بين المتنبي وبين والدهم عداوة قديمة. فقام هؤلاء إيغار صدر إسحاق على المتنبي، فقالوا له إن المتنبي لا يرغب في مدحه، ويعتبره دون مستواه، مما أثار حفيظته.
أرسل إسحاق إلى المتنبي يطلب منه أن يمدحه، لكن المتنبي اعتذر بأنه قد حلف ألا يمدح أحداً إلى أجل معين. فمنعه إسحاق من السفر، وأغلق عليه الطرق منتظراً انقضاء تلك المدة. وخلال فترة لا تتجاوز الأربعين يوماً، توفي أبناء حيدرة الذين حرّضوه عليه. حينها نظم المتنبي أبيات هجاء في إسحاق وهو لا يزال في طرابلس، وأملاها على من يثق به.
وبعد أن ذاب الثلج، وخفّت وطأة الشتاء في جبال لبنان، غادر طرابلس متجهاً إلى دمشق، وكأنما يسير بدون تسرع. لكن إسحاق أرسل وراءه رجالاً وفرساناً، إلا أن المتنبي أفلت منهم.
يُذكر أن ابن كيغلغ كان أحد شعراء الدولة العباسية
إذا غامرت في شرف مروم
يمدح المتنبي سيف الدولة الحمداني مبينًا أن الذي ينوي أن يسعى لتحقيق هدف ويفني نفسه في سبيله فالأحرى به أن يطمح نحو هدف، عظيم فالمؤمن في سبيل هدف عظيم كالموت في سبيل هدف حقير فالموت واحد، ولكن العقبى مختلفة.
يشبّه المتنبي الغابات البعيدة بالنجوم، لما يجمع بينهما من علوّ وسموّ، كما يشبّه الغايات باللآلئ النفيسة التي ينبغي السعي الجادّ لنيلها. ويرى أن من ينشد تحقيق هدفه لا ينبغي له أن يرضى بالقليل، أو يكتفي بالمراتب الدنيا، بل عليه أن يتطلع إلى أسمى المراتب وأرفع درجات الشرف، وأن تكون أحلامه شامخة، تُعانق السماء، وطموحه لا يعرف حدودًا.
فقد قال:
إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ
فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ
كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ
سَتَبكي شَجوَها فَرَسي وَمُهري
صَفائِحُ دَمعُها ماءُ الجُسومِ
قَرَبنَ النارَ، ثُمَّ نَشَأنَ فيها
كَما نَشَأَ العَذارى في النَعيمِ
وَفارَقنَ الصَياقِلَ مُخلَصاتٍ
وَأَيديها كَثيراتُ الكُلومِ
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ
وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ،
وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني
وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ
وَكَم مِن عائِبٍ قَولاً صَحيحاً
وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَقيمِ
وَلَكِن تَأخُذُ الآذانُ مِنهُ
عَلى قَدرِ القَرائِحِ وَالعُلومِ
المتنبي وسيف الدولة الحمداني
كانت علاقة المتنبي بسيف الدولة الحمداني إحدى أبرز العلاقات بين شاعر وأمير في التاريخ العربي، وقد امتدت لسنوات، وشهدت مدحًا وشعرًا عظيماً، لكن أيضاً خلافات وصدامات. دخل المتنبي بلاط سيف الدولة في حلب حوالي سنة 337 هـ (948 م)، ووجد فيه راعيًا للفكر والشعر، فمدحه في قصائد كثيرة أصبحت من عيون الشعر العربي، وأشاد فيه ببأسه في الحروب وحنكته السياسية، ووصف معاركه ضد الروم وصفاً بطولياً. سيف الدولة بدوره أعجب بذكاء المتنبي وفصاحته واحتفى به، وفضله على غيره من شعراء مجلسه، حتى أصبح من أقرب الناس إليه.
لكن هذه العلاقة لم تدم على حالها، فقد دبّ الخلاف بينهما بعد سنوات، خاصة بسبب الغيرة من حاشية الأمير وبعض المقربين منه، الذين سعوا إلى الوقيعة بينهما. كما أن المتنبي كان ذا نفس أبية واعتداد كبير بذاته، وقد ضاق ذرعًا بعدم التقدير الكافي له من بعض رجال البلاط، مما جعله يدخل في مناوشات كلامية معهم، تطورت إلى خصومة مع سيف الدولة، نفسه. ويُروى أن أحد أسباب الفتور في العلاقة أن المتنبي جُرح في إحدى المناسبات داخل مجلس سيف الدولة دون أن يتلقى إنصافاً من الأمير. في نهاية الأمر، غادر المتنبي حلب، وكتب بعض الأبيات التي ذكرناها سابقا، والتي حملت ألم الفقد والخذلان، لينهي بذلك إحدى أشهر قصص العلاقة بين القوة والموهبة، بين السياسة والشعر.
المتنبي وكافور الإخشيدي
عندما غادر المتنبي أرض سيف الدولة الحمدأني عمد إلى الفسطاط عند كافور راجيًا ان ينال هناك ما يستحق من التكريم والشكر والثناء والمال ولكن خاب أمله في كافور الإخشيدي، فتحولت خيبة أمل المتنبي إلى سخط، فغادر مصر غاضبًا، وبدأ بهجاء كافور في قصائد شهيرة، استخدم فيها أسلوبًا ساخرًا لاذعًا، وعبّر فيها عن احتقاره لكافور، معتبرًا إياه غير أهل للحكم والكرم. من أشهر قصائده في هجائه:
عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بما مضى أمْ لأمرٍ فيكَ تجديدُ
وقد صوّر فيها مرارة مقامه في مصر، وذم كافورًا بشدة. هذه العلاقة المتوترة بين الشاعر والحاكم أصبحت مثالًا على التوتر بين الطموح الشخصي وقسوة الواقع السياسي، كما أظهرت شجاعة المتنبي في التعبير عن رأيه مهما كانت العواقب.
قُتل المتنبي سنة 354 هـ (965 م) في منطقة قريبة من دير العاقول قرب مدينة بغداد، في أثناء عودته من بلاد فار كان السبب المباشر في مقتله قصيدة هجاء قالها في رجل يُدعى ضبة بن يزيد العيني، وهو من قبيلة بني عُين. تضمنت القصيدة إساءة بالغة لضبة ووالده ووالدته أتعذر عن ذكر أبيات القصيدة في هذا السياق، مما أثار حفيظته، ودفعه إلى الانتقام. فخرج به مع جماعة مسلحة، وهاجموا المتنبي في أثناء سفره..
يُروى أن المتنبي كان برفقة ابنه وغلامه، وأنه حاول الفرار من القتال، لكن أحدهم ذكّره ببيت شعره الشهير:
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
فقيل إنه عاد ليقاتل حفاظًا على سمعته، ومات مع ابنه وغلامه في المعركة. ورغم أن هذه القصة تحمل طابعًا دراميًا أدبيًا، فإنها تُظهر مدى تأثير شعر المتنبي حتى على مصيره، وكيف أن كبرياءه الذي تغنى به في شعره قد أدى دورًا في نهايته فالمتنبي شاعر قد قتل بحد لسانه.