مجدداً أمزق ما أكتب، كل يوم ألقي بعشرات المحاولات لكتابتكِ؟ محاولات للنجاة كتاب يحمل في طيه روح اسمه، ويلقي تلك الروح بمهارة كاتب يحاول إعادة صياغة الحياة، في محاولتنا الصعبة والمضنية للنجاة من كل ما كان وما سيكون، إذ تدور رحى الآن، وتطحن حروفنا، وتهرس كلماتنا، وتنهش صدى أصواتنا، ومجدداً أمزق ما أكتب! أيمكنني فعلاً أن أنجو أمام نص يحمل صوتاً وجودياً، يستعيره من حناجرنا، وقيح ألم لجراح لم تندمل إذ لم تجد فرصتها الذهبية لتحظى بضماد خلاب، ومجدداً أمزق ما أكتب! هل أنجو إذا سرت خلف ذلك الموكب، ورددت تماماً ما يقولون، هل أصغي إليهم فعلاً، هل يرونني حقاً.
الألوان والحكايات
كان علي أن أقف، وربما أجلس بوقار، وأقول معرفة الكتاب على أنه كتاب أدبي يضمن عبر صفحاته اثني عشر نصاً، يسافر فيها الكاتب بين حياتين، فيرسم الموت في محاولاته للنجاة من الحياة، كان علي أن أقف، لكن قدمي تؤلماني بعد كثير من الكدمات، في طرق نبحث فيها عن الحياة، وما زلت لا أدرك تماماً كيف قلّب غسان في بحثه وبحثنا عن الحياة صوراً لموت تدريجي يومي نحياه ولا نكاد ندركه.
محاولتان لإعادة الحياة
في محاولات للنجاة الصادرة في العام 2022 أقرأ بين غلافين محاولات لإعادة صياغة الورق، وهيكلية الذات، الألوان أيضاً لها صوت، فقد كانت ألوان باردة ساكنة محايدة تماماً بلون يقارب أن يكون أبيضاً، لكنه لا يكون، ويرتفع الدرج على لوحة الغلاف صعوداً حاداً ليصل إلى بوابة مغلقة، وما من مفاتيح معلقة في جيب شاب هزيل الملامح، مغيب الهوية، هو وهي محاولاته للنجاة، وتلك هي الحرب تدور رحاها فلا يصل ولا تصل.
هي أيضاً مغيبة الملامح، إلا أنها واضحة الهوية، باردة هشة، لا لون يشع في البعيد أملاً، فيخطف أبصارها فرحاً، ويتناثر قليل من كل شيء يقيدها، ويسرق صوت الكلمات من أنفاسها، لكنها ثانية وعلى مسافة ورق تحاول استعادة روحها في محاولات مضنية للنجاة.
محاولات إعادة سرد الألم
ربما تقودك كثير من النصوص التي تقرأها في لحظة شغب إنساني إلى كثير من الأسئلة التي تمضغها بين فكيك، ولا تقوى على البوح بها، أو التفكير بصوت خافت، تخشى تماماً أن يسمع ذهنك صوت أنفاسك، وبوح كلماتك، وبسذاجة ربما تفكر إذا ما كانت الأفكار تولد أفكارا فتصير كلمات، أو علها تكون محض ثرثرة، فتصير أفكاراً في لحظة شغب صاخبة؟! لا أجيد التفكير، ولا أعرف كيف تفكك الكلمات، ويعاد تشكيلها، لكنها المرة الأولى التي أخطأ فيها تلك الأفكار والأسئلة من روح الحكايات عبر صفحات تمتد في ذات كل واحد منا، فغسان يصغي إلى صوت أمنياتنا الخفي فنحن بالكاد نحاول أن نحيا، ولأول مرة أفتش خلف صوته عن صوت الكاتب، وليتني كنت أستطيع أن أسأله إن كلُّ ما في الأمر أننا نريد أن نحيا ولا شيءَ آخَر؟!.) وفي بحثنا المستمر عن شكل الحياة، تتولد صوت الموت في لحظاتنا، موت نحياه، وكثير من الموت يحيلنا، ويتشكل أمامنا في روح الحكايات عبر صوت سردي حكائي مسرحي متداخل، إذ تصغي إلى صوت الحكاية، فتسمع صدى لصوتك في مكان ما، وتسرها في نفسك، فلا يجدر بنا البوح بالكثير.
جغرافية الإنسان
يتشكل المكان في الزمن الحكائي بطريقة شائكة هذه المرة، إذ يعجن الإنسان زمانه، ويعيد تشكيل مكانه، فيكون هو، وتكون هي جغرافية الوجود، أول المكان، وأول الزمان، فأنا تبدأ الحكايات، وفيها تنتهي، أنا محاولات الوجود، والبقاء، أنا محاولات مقاومة الموت، بكل صوره المعلقة في أطراف لحظاتنا، بصوت الكاتب يهرب غسان من جغرافية فلسطين إلى جغرافية الوجود الإنساني، لكن أقداره تظل معلقة بحبال الحرب، ليست حبالاً على أي حال، لكن صوتها جيد، ويروق لي، في محاولات لإعادة صياغة الألم، والهروب منه إلى فيه حب ما، وفي جغرافية الإنسان حتى ذلك الحب لم يكتمل ليكون صورة من صور الحياة، فهو أحد صور الموت غير المشتهى، الحب المعلق بحبال الخيبات، (حبيبي أسمعها كل ليلة، وأعجز عن قولها، لست أشتاق إليها، لكني أشتهيها، كما تشتهينني كل العيون المكتبة على الأرصفة).
متن العناوين
تعرف كثيراً من العناوين، وتدرك عنا كثيراً من الحكايات، إذ تنبش بصوت السارد وأناه كثيراً من أحلامنا وأمنياتنا، وأوجاعاً ضربت عميقاً في الروح، ذات حرب ما، ذات تحقيق صاخب لا تكاد تسمع فيه صوتك، حين حلم لم يكتمل، وعلى متن العناوين ترسم ثانية صورة لمحاولاتنا الخاطفة للحياة، فبالكاد تكون العناوين كلمة سريعة خاطفة، (طبيب، ممرضة، حلم، تقمص، مصاب، هارمونيكا) وفي عزفنا المنفرد تتأرجح بعض العناوين المعلقة على متن انتظار، فتكون حالة سقوط لجسد ومشنقة، في (محاولات للنجاة)، تضيف هوية الغريب قبل أن يقول (شيئاً أخيراً قبل الانتحار).
هذه المرة لا يمكنني ابتداع خاتمة مذهلة، وثانية سأسمع صوت صدى الكلمات، فالحياة رهاننا الخاسر سقطت قطعة النقد الأخيرة أرضاً، على أحد وجهيها، فما من احتمالات أخرى، كثيرون قالوا: إنه وجه الموت، وكثيرون قالوا: إنه وجه الحياة!.