يقول عبدالوهاب المسيري:
"المثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل لا يستحق لقب مثقف." فهل أزمتنا اليوم أزمة ثقافة أم أزمة مثقفين؟
نحن نعيش في عالم تتدفق فيه المعارف من كل اتجاه؛ علوم الدين والسياسة، الفلسفة، علم النفس، الاجتماع... ومع تطور الذكاء الاصطناعي أصبح اكتساب المعرفة وتوظيفها أسهل من أي وقت مضى. ومع ذلك، نُحاط بكمٍّ هائل من الجهل!
لماذا؟
لنفهم، علينا أن نعود قليلاً إلى الأندلس، حيث كانت الثقافة الإسلامية في أبهى تجلياتها. حين ظهر ابن رشد، الرجل الذي جمع بين الفقه والفلسفة، بين العقل والنص، كان يجب أن يحتضن المسلمون فكره، لكن ما حدث كان العكس؛ نُفي ابن رشد وأُحرقت كتبه. وفي الوقت الذي أُغلقت فيه أبواب العقل في ديارنا، كانت أوروبا تفتح أبوابها له. تُرجمت كتبه من العربية إلى اللاتينية، وأحيانًا عبر العبرية، وأثرت فلسفته في نشوء المدرسة الرشدية اللاتينية (Latin Averroism). عُرف ابن رشد هناك باسم Averroes، ولا يزال حتى اليوم رمزًا في الفكر الفلسفي الغربي. هذه المفارقة تُخبرنا الكثير: بعد أن تخلّى المسلمون عن الفلسفة، احتضنها الغرب، ثم عاد فكر ابن رشد إلينا بعد قرون، مترجمًا من لغاتٍ أجنبية، ليُدرّس في جامعاتنا!
ولنتذكر: حين انفتح المسلمون في عصر هارون الرشيد ومن بعده المأمون وبيت الحكمة على معارف الأمم، ازدهرت حضارتهم في الفلك والطب والفلسفة. وحين أُغلق باب الاجتهاد، أُغلق معه باب النور.أما اليوم، ففي ظل هذا التقدم المذهل، نعاني فجوة أشد ظلامًا: أن يصبح من "الحياء" أن تقرأ كتابًا في وسائل النقل! مثال بسيط، لكنه كاشف.
والمثقف العربي؟ إما أن يختبئ في برجه العاجي، أو ينكفئ على ثقافة هشّة تقتصر على روايات سطحية، متجاهلاً الفكر العميق. حتى صار الشعار: "المهم أن تقرأ". نعم، يقرأ.. لكن ماذا يقرأ؟ أي وعي يصنعه كتاب عن عوالم خيالية بينما واقعه ينهار؟ قد تصنع بعض الكتب من القارئ مثقفًا، لكنها لا تصنع منه مفكرًا. وربما تجعله يشتبك مع الأفكار، لكنها لا تجعله قادرًا على التأثير.
المعضلة تبدأ حين يكتفي المثقف بـ القراءة السطحية، ويتخلى عن البحث والتساؤل، مكتفيًا بمراجعات الكتب على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث تُعاد تدوير نفس العناوين حتى يبدو الفضاء المعرفي محصورًا في بضعة كتب. ثم تأتي ظاهرة البودكاست، التي جعلت المعرفة سهلة وسريعة، لكنها أفرغتها من العمق. يتلقى المثقف الجديد أفكارًا برؤوس أقلام، حتى تصبح حصيلته المعرفية محدودة، وإذا ضُغطت انكشف خواؤها.
والسؤال هنا: هل نحتاج إلى كتّاب مثقفين أم قرّاء مثقفين؟
الجواب واضح: نحتاج كليهما معًا. نحتاج إلى من يكتب بفكر حي، وإلى من يقرأ بوعي ناقد، لا ليُردد، بل ليفكّر وينتقد ويحلل، مجددًا الدماء في شرايين الثقافة العربية. ومع هذا المشهد، ظهرت ظاهرة جديدة في العالم العربي: فانز الكتّاب. لأول مرة نشهد ولاءً أشبه بالتشيع، حتى أصبح القارئ لا يقرأ إلا لكاتبه المفضل، وكأن التنوع المعرفي خيانة!
هذا الانغلاق نقلنا إلى مرحلة ثالثة من تراجع الثقافة العربية، حيث يُختزل الوعي في أسماء محددة، ويتراجع معيار جودة الكتاب إلى مجرد اسم مؤلفه. أما مصطلح "القراء أذواق" الذي يُروّج له، فمصطلح غريب في سياق المعرفة؛ لأن القراءة ليست ذوقًا فقط، بل مستويات:
قراءة معرفية
قراءة تحصيلية
قراءة أدبية
ثم تأتي لحظة النقاء في قراءة الروايات والقراءة لمجرد القراءة ، لكن بعد أن تشبع العقل بجرعات كافية من الفكر والمعرفة، ليتمكن من تمييز الجيد من الرديء.
وأخيرًا: القراءة ليست رفاهية.. القراءة احتياج.