تعد هذه الرواية من أهم مؤلفات جيروم ديفيد سالينجر، ومن أهم مؤلفات الأدب الأمريكي في القرن العشرين، لأنها تغوص في عمق نفسية المراهق هولدين كولفيلد، وتحاول النبش في المجتمع الأمريكي الحديث المليء بالنفاق والزيف والتناقضات. لذلك نجدها محملة بالعديد من الموضوعات Thèmes من قبيل: التمرد على المجتمع، وفقدان البراءة، والخوف من النضج، والعزلة النفسية، والنفاق الاجتماعي.
أما بالنسبة للعنوان، فقد جاء من خطأ لفهم هولدين كولفيلد لقصيدة لروبرت بيرنز، ويعبّر عن رغبته في حماية الأطفال من السقوط "من حافة الجنون أو الفساد"، أي من الانتقال من عالم البراءة إلى عالم الكبار المليء بالنفاق والانهيارات.
وبما أن الرواية نشرت في زمن كان من المحرم الحديث فيه عن الاكتئاب والجنس والنفاق الاجتماعي، فإنها لاقت نجاحا باهراً ولا زالت تلقاه، وذلك لأن سياقاً نشرها في مجتمع أمريكي محافظ ساهم بشكل أو بآخر في انتشارها، وتلقيها على مستوى واسع، سواء على نحو إيجابي أم شكل سلبي. كما أن شخصية هولدين كولفيلد المتقلبة التي لم تقدم تطوراً كبيراً على المسار السردي جعلت القراء ينقسمون بين فئة متعاطفة معها وفئة غير متعاطفة (وأنا أنتمي إلى هذه الفئة)، رغم أن الكاتب حاول من خلال هذه الشخصية الوقوف عند أهمية البراءة وعدم النضج في عالم الأطفال النقي وعالم الكبار المزيف. ومع ذلك فإن من ينظر إليها باعتبارها تجربة وجدانية داخل عقل شاب مأزوم نفسياً، سيحاول الإمساك ببراءة ضائعة، وسيقدّر جانباً عميقاً فيها. وهي ليست رواية تُبهِر، بل إنها تُحرّك شيئاً داخلياً لمن يمرون أو مرّوا بلحظة التيه نفسها.
منذ الوهلة الأولى من قراءتي للرواية وجدت أن هولدين كولفيلد يهرب من النضج، ويرفض مجتمع الكبار ويصفه بالزيف. لدرجة أن كلمة زيف ومشتقاتها قد تكررت في بعض الصفحات أكثر من أربع مرات، وهو الأمر الذي جعلني أتساءل عن السبب الذي دفع كولفيلد إلى هذا الهروب، رغم أنه أمر حتمي ولا مفر منه في نهاية المطاف. فإضافة إلى كونه مراهقاً مرتبكاً، أجده يرى أن النضج مرتبط بخسارة الطفولة، والزيف، والموت الرمزي للبراءة. إن هولدين كولفيلد يرى أن الكبار منافقون ومزيفون، ويمثلون أدواراً لا تعبر عن ذواتهم الحقيقية، لذلك نجده يصف أي شخص بالمزيف أو المتصنع مراراً وتكراراً، وكلما واجه شخصاً يبدو غير صادق، أو يساير المجتمع لمصلحته، ينفر منه.
يكره هولدين الزيف، إلّا أن الأمر الملاحظ هنا هو أنه يقوم بإسقاط زيف ذاته على كل ما حوله؛ فهو:
- يكذب باستمرار: يعترف بنفسه أن الكذب عنده عادة. مثلاً، يخبر والدة أحد زملائه أن ابنها "عبقري ومحبوب"، رغم أنه يحتقره.
- يتظاهر بأنه لا يهتم، بينما هو يهتم بشدة (بما يقوله الآخرون، وبما يشعر به، وبالحب، وبالخسارة.
- ينتقد سلوكيات يمارسها: يحتقر من "يراوغ" أو "يتصنّع"، ومع ذلك فهو يتصنّع أيضاً ليحصل على القبول أو ليتجنب المواجهة.
بمعنى آخر؛ إن هولدين لا يرى زيفه؛ لأنه يستخدمه كدرع دفاعي ضد ألم داخلي أعمق، ويشعر بأنه غير حقيقي، ضائع، متناقض، بل لأنه لا يحتمل مواجهة هذا داخلياً، مما يجعله يُسقِط هذا الزيف على العالم من حوله، ويرى الكبار "مزيفين"، والحب "مزيفاً"، والسلطة "مزيفة"، لكنه لا يرى أنه يعيش بهوية مصطنعة مزيفة طيلة الرواية تقريباً، إنه ليس مزيفًا لأنه شرير، بل لأنه ضعيف جداً، ولا يملك الأدوات العاطفية للتعامل مع العالم، كل كذبة أو تظاهر منه، هي محاولة يائسة لـحماية نفسه من الانكشاف، وتجنب جرح جديد، والتغطية على هشاشته أو خوفه من الرفض.
لذلك فإن زيفه ناتج عن قلق وجودي، وليس خبثاً أو نفاقاً متعمداً، فهو المزيف الذي يُطارد الزيف، وهو الناقد الذي لا يجرؤ على نقد نفسه، وهو الحارس الذي لا يستطيع حماية نفسه من السقوط، فيكتفي بأن يحلم بإنقاذ غيره، ويحاول أن يمتلك بذور الشفاء من هذا الزيف. إلا أنه يجسد سيزيف الحداثة الأمريكية، حيث يحمل على عاتقه زيف المجتمع وما إن يبلغ به القمة، ويحاول إظهاره للناس، حتى يفلت منه مجدداً ويضطر للعودة إليه ليحمله مجدداً وهكذا. إن الكاتب من خلال هولدين يحاول حماية الطفل داخل الإنسان الناضج، ويحاول العودة إلى البراءة الأولى التي جبل عليها الإنسان، لكنه وسط طاحونة المجتمع يفشل في تحقيق مسعاه.
تشكل صدمة فقدان هولدين لأخيه الصغير "إلى" نقطة مفصلية في رفضه لعالم الكبار الناضج، فالي كان رمزاً للبراءة الطفولية النقية، إلّا أن الموت اختار اختطافه في وقت مبكر، مما جعل هولدين يرفض فكرة أن الحياة تمضي، أو أن الناس "يتجاوزون" الحزن وينضجون. إنه يريد أن يجمّد الزمن، أن يحمي الأطفال من "السقوط" في الهاوية (كما في رمزية العنوان. في هذا السياق نلمس حضوراً لعاملي الجنس والعلاقات العاطفية في هذا التيه الذي يعانيه هولدين، فرغم فضوله ورغبته في التجربة، إلّا أنه يشعر بالذنب والارتباك تجاه الجنس، ويتعامل مع العلاقات العاطفية بخوف وتردد، لأنه يربطها بالقذارة والاستغلال، يظهر هذا في موقفه من الفتاة سالي، أو من محاولته الفاشلة مع البغي. إن النضج الجنسي عنده يساوي فقدان البراءة والتورط في علاقات فاسدة من عالم الكبار.
إجمالاً، إن هولدين لا يهرب فقط من النضج، بل من فكرة أن الحياة لا معنى لها بعد أن نغادر عالم الطفولة. الراوي ليس مراهقاً متمرداً وحسب، بل هو ضحية صدمة وحزن لم يتعافَ منهما، ولهذا يبقى عالقاً في منطقة رمادية بين الطفولة والرشد، لهذا اختار أن يسير مع أخته الصغيرة في نهاية الأمر، وكأنه يتمسك بالطفولة والبراءة، ولا يريد إفلاتهما. إن مشهد هولدين، وهو يشاهد أخته الصغيرة فيني تركب على الأرجوحة تحت المطر، بينما يبتسم ويبكي في الوقت ذاته، هو من أكثر المشاهد تعبيراً عن التناقض الداخلي الذي يعيشه. في تلك اللحظة، لا يشاركها اللعبة، بل يراقبها بإعجاب وحسرة، كأنه يقول: "هذا هو العالم الذي أريد أن أحميه، لكني لم أعد أنتمي إليه".
هو لا يستطيع أن يعود طفلًا، لكنه يتشبث بطفولة الآخرين كطوق للنجاة، وكأنه يرى في أخته امتدادًا نقيًا لما كان عليه قبل أن ينهار كل شيء بعد طرده من المدرسة ووفاة آلي، وبعد ما عاشه من تجارب قاسية. إن المشي مع فيني ليس فقط تعبيراً عن حبه لها، بل هو رمز لتمسكه الأخير بالبراءة التي يوشك أن يفقدها. وربما لهذا السبب ينتهي الكتاب بنبرة غير حاسمة: "لا أدري لماذا اشتقت إليهم، حتى الزملاء الأغبياء منهم... لا ترووا قصتكم أبداً لأحد، وإلا ستبدؤون بالاشتياق إلى كل من حكيت عنه".
عبارة مؤلمة، لأنها تؤكد حقيقة أكثر ألماً، وهي أن الألم يصبح ذكرى حلوة حين يرحل. وهذا هو النضج الذي يرفضه هولدين، لكنه بدأ يتسلل إليه رغماً عنه. هولدين كحارس في حقل الجودار، ليس فقط حارساً لأطفال آخرين، بل حارس لضحايا النظام نفسه، ممن عجزوا عن حماية أنفسهم من تدمير العالم الذي احتضنهم. إن النصر في هذه الرواية ليس في الشفاء أو التحول، بل في المقاومة الداخلية والمحافظة على "الطفل" حتى في وجه السقوط.