يُعتبر زياد الرحباني، ابن السيدة فيروز والراحل عاصي الرحباني، من أبرز الموسيقيين والمبدعين العرب المعاصرين، والذين طبعوا الساحة الفنية ببصمتهم الفريدة منذ سبعينيات القرن الماضي. لا يُمكن اختزال عبقريته فقط في كونه ملحنًا أو عازفًا، بل في كونه حالة فنية متكاملة، تمزج بين الاحتراف الموسيقي، والوعي السياسي، والانتماء الجمالي العميق للواقع العربي.
نشأ زياد في وسط فنيٍّ استثنائي. لكنّه، بدل أن يسير على خطى والده وعمّه، اختار طريقًا مختلفًا منذ البداية. في سنة 1978، قدّم مسرحيته الأولى "بالنسبة لبكرا شو؟"، التي كسرت الصورة النمطية للمسرح الرحباني الكلاسيكي، مُدخِلاً عناصرَ سرياليةً وسياسيةً جريئة. لم يكن زياد الرحباني مجردَ وريثٍ لـ"المدرسة الرحبانية"، بل كان انزياحًا جذريًّا عنها.
تميّز زياد الرحباني بقدرته على تفكيك التقاليد الموسيقية الكلاسيكية العربية وإعادة تركيبها بأسلوبه الخاص، حيث استخدم مقامات شرقية في قوالب غربية مثل الجاز، والبلوز، والموسيقى اللاتينية. هذه التركيبة الهجينة منحت أعماله طابعًا عصريًا، دون أن تنفصل عن الجذور الشرقية. أغنيات مثل "عودك رنان"، و"بما إنو"، و"أنا مش كافر" تُبرز استخدامه للتوزيع الموسيقي الذكي، والانتقالات اللحنية غير المتوقعة، ما يعكس فهمه العميق للتوازن والإيقاع الموسيقي.
زياد الموسيقى الحالم لم يتعامل مع الموسيقى كفن محايد، بل استثمرها كوسيلة للتعبير عن مواقفه السياسية والاجتماعية. مسرحياته الموسيقية مثل "نزل السرور"، "بالنسبة لبكرا شو "و"فيلم أميركي طويل" هي نماذج بارزة على استخدام الموسيقى كمرآة للمجتمع اللبناني، بكل تناقضاته وتحدياته. كلماته الصادمة أحيانًا، الساخرة غالبًا، عبّرت عن وجع وواقع المواطن العادي، وانتقدت السلطة، والفساد، والنفاق الاجتماعي، في قالب موسيقي راقٍ جعل من أغانيه أعمالًا خالدة. فهو "فنان المفكّرين"، الذي حوّل الفن إلى مرآة تعكس تناقضات المجتمع.
زياد الرحباني معروف أيضًا بـاحترافيته العالية في العزف والتوزيع المباشر. فحفلاته الحية مثل تلك التي أُقيمت في دمشق وبيروت تُظهر مدى براعته في قيادة الفرق الموسيقية، والتفاعل الحيّ مع الجمهور. يستخدم البيانو ليس فقط كآلة عزف، بل كأداة تعبير درامي، قادرة على خلق مشاعر متنوعة. رفض وواجه زياد الالتزام بالشكل التقليدي للأغنية العربية. فأغانيه قد تتجاوز الست دقائق، وتحتوي على مونولوجات داخلية، حوارات مسرحية، وتغييرات في الإيقاع، مما يجعل من كل أغنية تجربة فكرية وموسيقية فريدة. فهو من القلائل الذين تمكنوا من الدمج بين النخبوية والجماهيرية؛ فأعماله تُعجب المثقفين والفنانين، لكنها أيضًا تجد صدى لدى الجمهور العادي. ورث زياد من الرحابنة الميل إلى الدراما الموسيقية والتعبير المسرحي، لكنه قدّم هذا الإرث في ثوب أكثر واقعية وقسوة. استبدل الرومانسية الحالمة، التي سادت أعمال الرحابنة الكلاسيكية، بـنبرة سوداوية ساخرة تعبّر عن زمن الانهيارات والحروب.
زياد الرحباني ليس مجرد موسيقي موهوب، بل صوت جيل بأكمله. عبقريته الموسيقية لا تكمن فقط في الألحان التي يؤلفها، بل في الرسائل التي يحمّلها لها، والأسلوب الذي يصرّ من خلاله على أن يكون مختلفًا، صادقًا، ومتمرّدًا. لم يكتفِ بأن يكون امتدادًا لأسطورة "الأخوين الرحباني"، بل صاغ عالمه الخاص، حيث تلتقي الموسيقى بالمسرح، والسخرية بالنقد الاجتماعي والسياسي. زياد لا يغنّي، بل يرفض أن يصمت. فهو لم يكتفِ بأن يكون ابنًا لأسطورة فنية، بل صنع أسطورته الخاصة في موسيقاه، ربما هذا هو السبب الذي يجعل موسيقاه عالقة في الأذهان، كذكرى لماضي لبنان الجميل. فموسيقاه ظلّت كالصدى الذي يعلو كلما سكتَ الناس. الموتُ لم يقتله، بل حوّله إلى أسطورةٍ أكثرَ حريّةً من ذي قبل. لقد فتح أفقًا جديدًا للموسيقى العربية، أفقًا يُحتفى فيه بالعقل، بالتساؤل، بالحلم وبالوجع.. ولكن دومًا بنغمة راسخة لا تُنسى على مر الأزمان . رحلَ زياد جسداً، لكنّ موسيقاه صارت أكثرَ صخباً. كأنما الموتُ كانت الورقةَ الأخيرةَ في مسرحيته الساخرة من الواقع الاجتماعي والسياسي . تبقى موسيقى زياد الرحباني شاهداً على أن الفن الحقيقي لا يموت. رحل ابن فيروز وعاصي، لكنه صار أخيراً حراً من القيود كلهم، خالداً في كل نغمة تذكرنا أن الفن لم، ولن يكون مجرد ترفيه، بل مقاومة.