تجمع الرواية التاريخية بين التوثيق والخيال الإبداعي، متجاوزة السرد التقليدي للأحداث، لتعيد تشكيلها ضمن إطار إنساني يعكس كلا من التجربتين الفردية والجماعية؛ إذ يعمد الروائي إلى انتقاء ما يتوافق من وقائع التاريخ مع رؤيته الفكرية وذائقته الجمالية، فيستحضر الماضي ويصله بالحاضر ضمن رؤية فنية يتداخل فيها عناصر الخيال الشاعري مع صدق الوقائع التاريخية. ومن خلال هذه العملية السردية، تكشف الرواية عن الأنساق الثقافية التي سادت المجتمعات في فترات زمنية معينة، وتشمل هذه الأنساق: القيم الاجتماعية والعادات والبنى الاقتصادية والحضارية وأنماط السلطة والدين والمبادئ الفكرية والجندر وغيرها من المكونات التي تشكّل الوعي الجمعي وتحدِّد ملامح الهوية المجتمعية. وفي هذا السياق، تبرز رواية "الشهبندر"، الصادرة عام 2003 عن دار الآداب للنشر والتوزيع في بيروت والتي تضم 352 صفحة من الحجم المتوسط، للكاتب الأردني هاشم غرايبة كنموذج مميز لهذا الشكل السردي، إذ تستحضر مدينة "عمّان" خلال عامي 1937م و1938م، لتعيد تصوير المكان والزمان عبر رؤية سردية عميقة تُفكّك الأنساق الثقافية المتداخلة وتكشف عن التحولات المتنوعة التي ساهمت في بلورة وعي المجتمع وتشكيل هويته في المدينة الناشئة.
تستند هذه الرواية في سرد أحداثها على يوميات التاجر "محمد علي الجمّال"، والتي استهلها بعبارة "افتتحت هذا الدفتر باسم الله في الثاني من كانون الثاني عام 1937 م، وأنا منشغل بترتيب أوضاع أسرتي في سكني الجديد على سفح جبل عمّان". (غرايبة، 2003، ص 30)، وتبدأ أحداث الرواية بطريقة لافتة، إذ يتحدث التاجر عن وفاته أو مقتله، ثم يعود ليقصّ علينا مسيرة حياته. وبهذا يتابع القارئ تطور الأحداث بشغف، أملاً في كشف سر نهايته الغامضة. نال هذا التاجر لقب الشهبندر في الأسواق القديمة لمدينة "عمّان" نتيجة لجهده ولخبرته المتراكمة ومعرفته المتنامية (كان متعلماً ومثقفاً واعياً) وحنكته التجارية. بدأ الشهبندر مشواره المهني سائقاً لشاحنة تنقل سلعاً مختلفة، كالسكّر، والبن، والقمح، والصوف بين الدول العربية المجاورة قبل أن يتجه لتجارة السكّر، ومع مرور الوقت، أصبح يدير أعمالاً تجارية ناجحة. يورد الكاتب أمثلة على شخصية الشهبندر الابتكارية القيادية، فهو من اخترع فكرة بيع الأقمشة بالميزان، وفي حين كان تجار لبنان وفلسطين ومصر يتجهون غرباً لانبهارهم بالسلع الأوروبية، قرر هو الاتجاه شرقاً لاستيراد البضائع، وفي هذا السياق، يقول الشهبندر: "قمت بعقد اتفاقات ملزمة مع إدارات السكك الحديدية المختلفة، في سوريا وتركيا والعراق، واتّفقت مع وكلاء شحن موثوقين، من أجل أن نستورد البضائع من الشرق عن طريق ميناء البصرة، وأقمت شراكة مع التاجر الشهير كاظم الناصري ... من أجل أن تكون بغداد محطة تجميع ونقطة اتّصال". (غرايبة، 2003، ص 42)
وفي هذا الإطار، تُشبه مسيرة الشهبندر المهنية مسيرة مدينة "عمّان" ذاتها، التي انطلقت كبلدة صغيرة محدودة السكان والأسواق، ثم شهدت توسعاً لافتاً وازدياداً سريعاً في عدد سكانها وتنوعاً واضحاً في نسيجها الثقافي والعرقي خلال مدة زمنية وجيزة، ويدلي الشهبندر برأيه حول العامل الأكثر تأثيراً في نهوض "عمّان"، مستعرضا تاريخها عبر العصور المتعاقبة، فيقول: "(علمك عمّان قرية) كان السيل والزراعة سنديْ عمّان لتكون، والتجارة سندها لكي تنهض، فمنذ كانت عمّان أيام العمونيّين ثمّ الأشوريّين ثمّ البطالمة علامة على (طريق الملوك)، التي صار اسمها (طريق تراجان الجديدة) في العهد الرومانيّ. إلى أن صار اسمها (طريق الحجّ السلطانيّ) في العهد العثمانيّ. وعمّان تنهض بنهوض التجارة من حولها، وتكبو بنكوص التُّجار عن المرور بها. عمّان تجارة. وداعاً لقوافل الجمال، ومرحى لعربات القطار" (غرايبة، 2003، ص 41)، فكما شكّلت التجارة ركيزة أساسية في صعود الشهبندر من سائق شاحنة إلى تاجر بارز في سوق السكّر، كانت أيضاً محركاً أساسياً لنهوض مدينة "عمّان"، في الوقت الذي تسرد فيه الرواية مراحل متعاقبة من التاريخ؛ إذ يخصص الكاتب بعض الفصول لاستحضار مشاهد من الأحداث والغزوات التاريخية التي مرت بها المدينة في محاولة لربط ما جرى بالماضي لما يحدث في حاضر الرواية، وقد استعان الكاتب ببعض الشخصيات التاريخية الحقيقية، سواء كانت في زمن الرواية أو في العصور السابقة، بهدف ربط الرواية بمرجعها التاريخي والثقافي.
ومن زاوية أخرى، يشير الكاتب إلى الكيفية التي تعاملت بها "عمّان" في نسختها الحديثة مع الاستعمار، مسلطا الضوء في الوقت ذاته على سمة بارزة متجذرة في تاريخ المدينة، وهي سمة المقاومة، بوصفها جزءا أصيلاً من هوية المدينة ووجدانها الجمعي، وذلك كما تقول الرواية "ما أن يستقرّ الغزّاة ويضع الجند أسلحتهم حتّى تقوم الفتن بين الأسياد القادمين من الشرق أو الغرب... وكانوا دائما ينجحون في استعادة استقلالهم، وتجديد مخزونهم من الحكايات والأساطير، والاستعداد لاستقبال غزاة آخرين!" (غرايبة، 2003، ص 151) وفي هذا الإطار، تُظهر أحداث الرواية البعد النضالي في الشخصية العمّانية والمنتمية إلى الهوية العربية خلال ثّلاثينيَّات القرن العشرين، وهي فترة اتسمت بالتوترات السياسية وتأثيرات الاستعمار البريطاني. ويبرز هذا الجانب من خلال تفاعل شخصيات الرواية مع القضايا الوطنية والقومية، فمثلاً، تسرد الرواية محاولات ناجحة لتهريب الأسلحة إلى فلسطين، التي يقوم بها كل من التاجر المنافس للشهبندر سليم الدقر والأستاذ الأرمني إلياس أفندي، ما يعكس حالة المقاومة والرفض التي اتسمت بها تلك المرحلة من التاريخ.
وسعيا من الكاتب لإعطاء صورة متكاملة عن الحياة والمشهد في عمّان خلال ثلاثينيَّات القرن الماضي، تطرق إلى تأثير الهجرات المتتالية من بلاد مختلفة في التكوين الثقافي للمدينة، كما اختار شخصيات الرواية من مراتب طبقية واجتماعية متنوعة، فمن كبار التجار ورجالات الدولة والمثقفين إلى عبد الله النوري وسالم البدوي، اللذين كانا يعملان لدى الشهبندر، والدومري المسؤول عن إشعال مصابيح الكاز في الشوارع، الذي كان يكتب تقارير يومية عن تنقلات الناس ليلاً. وعلى نحو إبداعي، منح الكاتب الأشياء صوتاً لتتحدث عن تاريخ عمّان وعاداتها وتقاليدها وعن شخصيات الرواية وأحداثها، كأحاديث شهر رمضان وشهر شوال والثلج والمطر ودامر الجوخ والوتد ومقهى حمدان الذي يحدثنا قائلاً: "أنا مقهى حمدان شاهد تاريخ الأمّة. مثلما الباشا شيخ الأردنيّين أينما اجتمعوا؛ أنا ملتقى الوطنيّين والقوميّين مهما اختلفوا. هنا عقدوا مؤتمرهم الأول!" (غرايبة، 2003، ص 93). ولم تغفل الرواية جانب النقد لمشهد عمّان آنذاك، إذ تناولت بأسلوب غير مباشر ممارسات السلطة واختلال منظومتها الإدارية، فعلى سبيل المثال، جاء اعتراف عبد الله النوري في قضية حرق دكّان سليم الدقر نتيجة للتعذيب الذي تعرّض له في مقر الدرك، بينما يشير الشركي ميرزا على، المدعي العام، إلى الخلل البنيوي في نظام الجباية وآليات تطبيقه في المدينة.
يتطرق هاشم غرايبة في روايته إلى بعد ثقافي آخر متجذر في المجتمع العمّاني، وهو البعد الديني، والذي يتخذ صوراً متعددة، فمنها ما كان محافظاً ومتشدداً، كما يتجسد في شخصية الشيخ بدري، ومنها ما كان متحرراً، مثل الذي يمثله الشهبندر. كان الأخير يجمع بين الإيمان والالتزام بممارسة الشعائر الدينية وبين الانغماس في الملذات الدنيوية؛ إذ كان يشرب الخمر ويقيم علاقة خارج إطار الزواج مع لوليتا الإيطالية. ولكن، تشكّل واقعة سجنه على ذمة التحقيق لأربعة أيام، بسبب اتهامه ظلماً في حادثة حريق دكان التاجر سليم الدقر نقطة تحوّل في حياته؛ إذ يتجه الشهبندر بعد ذلك إلى عالم التصوف، الذي يجمع بين المحافظة والتحرر، ويصف الشهبندر "التصوف" بقوله: "لا أنظر إلى الصوفية كمذهب، بقدر ما أتقبلها كرؤية للكون كما خلقه الله: على التواصل والتكامل، لا نهائيّ التعدد والتنوع" (غرايبة، 2003، ص 233). وتتجلّى هذه الرؤية الصوفية في علاقاته مع إلياس ولوليتا المسيحيين، فعلاقتهم تعبر عن وحدة تجمع بين الأديان رغم اختلافها مع الإقرار باستقلالية كل دين وخصوصيته، ضمن نسيج اجتماعي متناغم. ومن ناحية أخرى، ينهي الشهبندر علاقته غير الشرعية مع لوليتا انسجاما مع صحوة الوازع الديني الأصيل في شخصيته وامتثالاً لقيم مجتمعه الدينية التي تنبذ هذا النوع من العلاقات، وفي الوقت ذاته، يتخلى تدريجياً عن مزاولة أعماله التجارية وينغمس في حياة التصوف والعزلة، وتصف الرواية ذلك بقولها: "لم تكن عزلة الشهبندر خالية من المتع، فقد كان يتذوَّق على مهل الغوص في عالم مختلف من السكينة، والاستسلام لطقوس تقوده إلى فضاء لا نهائيّ. يقول: السلام في داخلنا، ولكنّا لا نعثر عليه بيسر" (غرايبة، 2003، ص 149)
يُبرز الكاتب الدور الفاعل للمرأة في الحياة الخاصة والعامة لمدينة عمّان، فهو يقدّم شخصيات نسائية متنوعة تتجاوز أدوارها الأدوار التقليدية؛ إذ نجدهن يتلقين التعليم في المدارس والجامعات ويزاولن المهن ويشغلن مناصب تعليمية وإدارية، ويدرن أعمالهن الخاصة. كما يتعمّق الكاتب في تصوير تطلعاتهن وأفكارهن ومشاعرهن وصراعاتهن الداخلية، دون أن يغفل الإشارة إلى بعض نزعاتهن وتصرفاتهن السلبية. ويتجسّد هذا الدور البارز الفاعل للشخصيات النسائية بشكل خاص في بنات الشهبندر الخمسة اللاتي اهتم والدهن بتعليمهن جميعاً في مدارس عمان وحتى التعليم الثانوي (في القدس) والمرحلة الجامعية (في سوريا أو لبنان)، وحتى أنه كان يُكنى "بأبي سلمى" على غير المألوف في مجتمعه. ولكن، يكون لسلمى، الابنة الكبرى، توجه يختلف عن توجه والدها لبناته، إذ فضّلت امتهان العمل بالخياطة وتصميم الأزياء على مواصلة الدراسة الجامعية، وحققت نجاحاً باهراً في عملها، حتى إنها أنشأت مشغلاً للخياطة خاصاً بها في السوق الذي كان حكراً على الرجال آنذاك. كما أنها أدت دوراً هاما في الحفاظ على استمرارية أعمال ومحلات والدها الشهبندر بعد أن اتجه إلى عالم التصوف وزهد في عالم التجارة بعد واقعة سجنه ظلماً. تلك المواقف والأعمال تشهد بتميز شخصية سلمى وتفردها. ورغم بعض سلوكياتها المشاكسة والمفاجئة، إلا أنها لم تنفصل عن مجتمعها، بل حققت توازناً بين حريتها الشخصية والتزامها بالقيم الاجتماعية الراسخة، وفي هذا السياق تقول سلمى: "صارت تعتبر سلوكياتي تصرُّفات فتاة صعبة المراس، لكنّها أخطاء تغتفر في مقابل قصص الغرام، والتدخين، المظاهرات، والتقاعس في حلّ الواجبات، والتقصير في حفظ الدروس." ((غرايبة، 2003، ص 72)
امتاز السرد في الرواية بالوضوح والسلاسة والابتعاد عن السرد التقليدي المباشر للوقائع والتوظيف الذكي للتراث في عرض رؤيته الفكرية. واستخدم الكاتب أسلوب تعدد الأصوات السردية واختلاف ماهيتها وهو ما يتيح فهما أعمق لتناقضات النفس البشرية وتعقيداتها ويوفر للقارئ إحاطة أشمل لأحداث الرواية وترسيخا أكبر لأفكارها الرئيسة. وشغل الحوار جزءاً لا بأس من الرواية بغرض عرض رؤى فكرية وآراء متباينة، ولا سيما الحوار الداخلي، بما يتضمنه من ولوج العالم النفسي للشخصيات وفهم صراعاتها الداخلية. وظّف الكاتب تقنيات سردية متعددة مثل الاسترجاع للكشف عن خلفيات الشخصيات والأحداث مع استخدام أسلوب التنوع في الأساليب اللغوية، ما بين اللغة الأسطورية واللغة الشعرية واللغة الفصيحة واللهجة العامية ما أضفى على النص بعداً واقعياً وجمالياً في آن واحد، وإن كانت لغة الرواية قد مالت، في بعض مواضعها، إلى اتخاذ الطابع التقريري أو الأسلوب التاريخي، ما جعلها تطغى أحياناً على السرد الروائي، إلا أنها ظلت قادرة على إيصال الرؤية الفكرية للكاتب بوضوح، ونجحت في تحقيق توازن مقبول بين البناء الفني والمضمون الفكري.
وختاما، تجسّد رواية "الشهبندر" للروائي المبدع هاشم غرايبة، مدينة "عمّان" ككيان نابض بالحياة، لا يقتصر دورها على كونها مجرد فضاء مكاني للأحداث، بل يتجاوز ذلك ليغدو جزءاً أصيلا في الوعي الجمعي والهوية الفردية لشخصياتها. فالشخصية المحورية، الشهبندر، لا تُقدَّم بوصفها فرداً فحسب، بل ترمز إلى مرحلة كاملة من التحولات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتحديات التي مرت بها المدينة وسكانها خلال ثلاثينيَّات القرن العشرين. ومن خلال هذه الشخصية، يدعو غرايبة القارئ إلى الانتماء إلى "عمّان"، لا بوصفها مدينة فحسب، بل كأسلوب حياة، ونمط عيش، يحمل بصمة المكان والإنسان معاً، وفي هذا يقول الشهبندر: "عمّان هي التجربة الخاصة الحميمة، هي أنا الشهبندر وقد تضخَّمت وترامت أطرافي حتّى صرت بحجم تلالها السبعة، عمّان أنت، وهي، وهم، بعد أن يتجرَّد الجميع من (القيمة) الكبيرة، والزيف، والتزويق، والادّعاءات البلهاء. عمّان ليست سيل ماء، وينابيع ثرة، وآثاراً شامخة، وبيادر وأبنية وبشر، عمّان ليست سوقا، وقطار بضائع ومحطّة سفر للبائعين، عمّان ليست مجرد دورٍ سياسيّ في المنطقة، وليست رمية نرد أو فرشة إسفنجية تمتصّ فائض الأزمات من حولها: عمّان أسلوب حياة، ونمط عيش، فإما أن نحبّها أو نحبّها." (غرايبة، 2003، ص 341).
المراجع:
- الحمود، أحمد وحداد، نبيل، "التاريخية في الرواية الأردنية (رواية الشهبندر لهاشم غرايبة نموذجا)، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الإنسانية، مجلد 28، ص 160-185، 2020
- غرايبة، هاشم، "الشهبندر"، بيروت، دار الآداب للنشر والتوزيع، 2003
- النوباني، شفيق، "عمّان في الرواية العربية في الأردن"، عمّان، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، 2013