الأسطورة
تحكي الأسطورة الإغريقية أن سيزيف كان رجلاً ذكياً وماكراً جداً، استطاع أن يخدع إله الموت "ثانتوس" حين طلب منه أن يجرب الأصفاد والأقفال، وما إن جربها إله الموت حتى قام سيزيف بتكبيله، وحين كبل سيزيف إله الموت منع بذلك الناس أن تموت.
أغضب هذا الأمر الآلهة الأوليمبية فأصدروا عليه حكماً بأن يعيش حياة أبدية على أن يقضي سيزيف هذه الأزلية في عمل غير مجدٍ، ألا وهو دحرجة صخرة صعوداً إلى جبل حتى تعود للتدحرج نزولاً من جديد، مراراً وتكراراً، وبلا نهاية.
يتساءل كامو: هل يمكن أن تحل بالإنسان حياة عبثية أكثر، من حياة عبثية كهذه؟ أوليست حيواتنا التي نحياها في هذا العالم تشبه إلى حد كبير هذا الشقاء الذي حُكم على سيزيف به؟ ذلك الروتين اليومي الذي نعيشه وتلك الأعمال التي نكررها كل يوم دوم غاية تذكر أو هدف نصل إليه؟ ثم تطرح علينا هذه الأسطورة تساؤلاً آخر وهو ألا يمثل الموت في هذه الحالة خلاصاً للإنسان من هذا الضجر.
سيزيف سعيداً
يقول ألبير كامو الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام ١٩٥٧، في مقال موجز بعنوان "أسطورة سيزيف": "إذا كان النزول [أي عودة سيزيف إلى أسفل الجبل ليبدأ بدفع الصخرة إلى الأعلى مرّةً أخرى]، يتمّ أحيانًا بحزن، فيمكن أن يحدث أيضًا بفرح". هل كامو محقّ بأنّ مهمّة سيزيف فيها من أسباب الرضى ما يوحي بـ"السعادة"؟
أتخيل منذ قرأت هذه النظرية التي كتبها كامو بأن سعادة سيزيف سواء كان يحمل صخرة العمل أو العلم أو الضمير، ممكنة في حالات ثلاث، اجتماعها قد يكون معيناً له على أداء مهمته، وهي فهم الواجب وضرورة السعي له، والإيمان بالمتجاوز.
فهم الواجب
يُعدُّ فهم الواجب كقدر من المبادئ الفلسفية والأخلاقية التي تعكس اعتقاد الإنسان بأن الأمور التي يجب أن يقوم بها أو يتبعها ليست مجرد اختيار شخصي، وإنما هي جزء من القدر المحتوم الذي قدره الله أو القدر الكوني. هذا المفهوم يعزز فكرة أن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وأن الالتزام بالواجب هو واجب مقدر ومحدد سلفاً، مما يرسخ روح الطاعة والانضباط، ويحث على التصالح مع القدر والرضا بما قسمه الله، مع إدراك أن الالتزام بالواجب هو طريق لتحقيق السعادة والرضا الداخلي، وأن عدم الالتزام قد يؤدي إلى التمرد على إرادة القدر وفقدان التوازن النفسي والأخلاقي.
السعي كضرورة
يُعتبر السعي ضرورة حتمية في حياة الإنسان، إذ لا يمكن تحقيق الأهداف والطموحات بدون بذل جهد ومثابرة. فالسعي يعكس الإرادة القوية والرغبة في تطوير الذات وتحقيق النجاح، وهو أساس التقدم والتطور في مختلف مجالات الحياة. الإنسان الذي يقتصر على الانتظار دون أن يسعى بجد واجتهاد غالباً ما يُصادف الفشل ويظل في مكانه، بينما السعي المستمر يمنحه الفرصة لتجاوز التحديات وتحقيق أحلامه. لذلك، يُعدّ السعي ضرورة حتمية لأنه يربط بين الإرادة والعمل، ويقود الإنسان إلى تحقيق ذاته وبلوغ مراده، وهو الطريق الذي يضمن استمرارية النمو والتقدم في حياة الفرد والمجتمع على حد سواء.
الايمان بالمتجاوز
يُعدُّ الإيمان بالمتجاوز من المفاهيم التي تساهم في تخفيف عبء الحياة على الإنسان، حيث يمنحه قوة روحية وثقة عميقة في أن هناك شيئاً أكبر من ذاته يراقبه ويُدبر أموره. هذا الإيمان يمنح الإنسان الأمل والسكينة في مواجهة المصاعب والتحديات، ويعزز لديه الشعور بأن ما يمر به من محن هو جزء من قدر أكبر ومخطط إلهي أو كوني أسمى، يتجاوز محدودية الحياة الدنيا. فالثقة بالمتجاوز تساعد الإنسان على تحمل أعباء الحياة بصبر ورضا، وتجعله يتجاوز ألم الفقد والخسارة، ويشعر بأنه ليس وحيداً في معركته، بل هو جزء من قوة عليا ترعاه وتوجهه نحو الخير، مما يخفف من وطأة الضغوط ويمنحه الأمل في مستقبل أفضل.
الخلاصة
تتشابك المفاهيم الثلاث: فهم الواجب، والسعي كضرورة، والإيمان بالمتجاوز لتشكل إطاراً يساعد الإنسان على تحمل أعباء الحياة وغياب المعنى. ففهم الواجب يعزز شعور الإنسان بالمسؤولية والانضباط، ويجعله يقبل تحديات الحياة كجزء من نظام أسمى، مما يخفف من شعور اليأس ويمنحه استقراراً نفسياً وروحياً. في الوقت ذاته، يُعد السعي المستمر ضرورة حتمية لتحقيق الذات والتقدم، حيث يمنح الإنسان هدفًا يدفعه للاستمرار والعمل رغم غياب المعنى الواضح، ويُشعره بأن حياته لها قيمة من خلال الإنجاز والتغلب على الصعاب، ما يعزز صموده ويخفف من إحساسه بالفراغ أو اللامعنى.
أما الإيمان بالمتجاوز فهو القوة الروحية التي تمنح الإنسان ثقة عميقة بأن هناك شيئًا أكبر منه يُدبر أموره، وهو ما يخفف من وطأة الألم ويزرع الأمل في مواجهة المصاعب. يربط هذا الإيمان الإنسان بمسار قيمي يتجاوز محدودية حياته، ويجعله يتقبل الفقد والألم بصبر ورضا، مدركاً أنه جزء من خطة كونية أعلى.
هكذا، تتكامل هذه المفاهيم لتعطي الإنسان مصدراً للثبات، والأمل، والقدرة على الصمود، حتى في أحلك الظروف، وتجعله يستمر في البحث عن معنى في وجوده رغم غياب المعنى الظاهر، متمسكاً بقوة الواجب، والسعي، والإيمان بالمتجاوز، كمؤونة يحارب بها العالم.